كريتر نت / تقرير : نصر الأشول
ليس للحرب رب.. وإذ تتوحش دومًا, لا ترق لأي قلب.. تعرف فقط حصد الأرواح وتهشيمها.
قد تروي عاتكة بجاش للزمن أو لأحفادها يومًا أنها لم تكن طفلة قط في حياتها. وقع المعاناة في تعز ورحلة النزوح إلى الضالع ألّفتْ بها قصة موجعة لواحدة من أسوأ مجريات النزاع المستمر للعام السادس على التوالي.
ولدت في مدينة تعز, جنوبي غرب اليمن, عام 2002. توفيت والدتها, 2008, بينما كانت في السادسة. لم تتمكن من الالتحاق بالمدرسة, وبعد سنوات قليلة تحملت أعباء المنزل لمساعدة أبيها وإخوتها الخمسة الأصغر منها.
تتذكر وعلى نحو مؤلم “لم يستطع والدي الاستمرار في العمل عندما اندلعت الحرب, 2015, وبسبب الاشتباكات والقصف العشوائي نزحنا إلى قطعبة” كبرى مديريات محافظة الضالع “جمعنا ما استطعنا من سامان (أغراض) بيتنا في تعز، ورحلنا”.
قالت عاتكة إن أكثر ما استطاعوا أخذه معهم ملابسهم القليلة (إخوتها ثلاثة أولاد وبنتان هي أكبرهم), وبينما كانوا يغادرون المنزل “كانت عيوننا تقطر دمًا. كنا نرى أطفال الأسر النازحة بجوار أمهاتهم, وكنا نفتقد أمنا”, تستدرك “كان أبي هو الأب والأم معًا”.
أثناء رحلة النزوح, مضت العائلة في عديد طرق جبلية وعرة, اضطرتهم إلى المشي على أقدامهم أحيانًا “كان ظهر أبي وسيلة النقل لمساعدة إخوتي, بينما كنت أمضي خلفه”.
“في تلك الخيمة بنت مكسورة”
لم ألتقِ عاتكة وأباها بجاش علي بن علي في مديرية قعطبة حيث نزحوا للمرة الأولى بل في مخيم للنازحين, ضمن 54 خيمة صغيرة, بمنطقة الجليلة الواقعة ضمن مديرية الضالع عاصمة المحافظة الجنوبية, 125 كيلومتر إلى الشمال من عدن.
وللوهلة الأولى حين يلتقي النازحون صحفيين يذهب ظنهم الأول إلى اعتبارهم عاملين في منظمات دولية, وعندما يتبدد هذا الظن يعكس خيبة أمل بادية على الوجوه. ورغم الاستياء الذي يبدونه حيال المنظمات الإنسانية إزاء التقصير في الوصول إليهم, فهم يبحثون في المقام الأول عما يقيهم مرارة العيش من طعام وماء وكساء وقليل من المال.
يرى المرء أطفالًا دون ملابس وأحذية تحت هجير حارق, يقطنون مع ذلك خيامًا بلاستيكية. في هذه الظروف التقيت بطلة القصة.
ما إن مررت بجانب امرأة مسنة “كلهم كذابين, سئمنا الوعود ومتنا من الجوع”, تقصد منظمات الإغاثة الإنسانية, حتى اقتربت مني طفلة تدعى فاطمة “في تلك الخيمة بنت مكسورة الرِجل”, قبل أن تضيف مشيرة إلى الكاميرا “صورها”. تلك الطفلة كانت عاتكة.
“حتى بكرسي متحرك”!
رأيتها للمرة الأولى على فراش الإصابة. فإلى ما واجهته وعائلتها, روت المزيد من فصول المأساة جراء فداحة الحرب التي قتلت وأدمت وشردت آلاف الأطفال اليمنيين في عديد مناطق الصراع شمالًا وجنوبًا.
فور وصلوهم إلى مديرية قطعبة, شمالي الضالع, أصيب أبوها بطلق ناري في صدره من مصدر مجهول لم يكشف عنه, وفي حادثة ما تزال غامضة أجبرتهم النزوح مجددًا إلى الجليلة. وعندما أعيتهم الحيلة في الحصول على ما يقتاتونه على إثر هذه الإصابة, اضطرت عاتكة إلى الاستجداء “لا مصدر دخل لنا, وليس لأبي إلا أنا وأنا طفلة”, غير أن هذه الحرب في واحدة من أبشع فصولها مأساوية لم تسمح لها أن تعيش هذه الطفولة كغيرها.
تضيف “أثناء عودتي في إحدى الأيام عند الواحدة ظهرًا، وبحوزتي ما يقارب ثلاثة آلاف ريال يمني (أقل من خمسة دولارات أمريكية)، وبينما كنت سعيدة بهذا القدْر, وأفكر بالعودة لشراء وجبتي الغداء والعشاء لعائلتي انقلبت بنا حافلة صغيرة كانت تقلنا في طريق الشعيب وانكسرت قدمي اليسرى”.
حدث هذا قبل ستة أشهر. أسعفت عاتكة إلى مستشفى النصر في مدينة الضالع على حساب إحدى المنظمات لا تتذكر اسمها. جُبر الكسر، وأُخرجت إلى الخيمة عند أبيها وإخوتها “كما ترى الآن, لا أستطيع القيام والسير جيدًا”, فأخرج هذا الحال أباها رغم إصابته “نتضور جوعًا كل يوم, ونظل بانتظار عودة أبي الذي أصبح يخرج من الخيمة فجرًا” ليعود إليهم مرة عند الظهيرة ومرة قرب المساء.
استطاع الأب جمع قليل من المال وذهب بابنته إلى المستشفى مجددًا “قال الطبيب إن موضع الإصابة ملتهب وأنني بحاجة لعملية تركيب صفائح لقدمي”, تتنهد في حيرة وحسرة “تكلف العملية حسب قوله خمسمائة ألف ريال يمني”, والمبلغ أقل من ألف دولار أمريكي “لكننا لا نملك قوت يومنا”, تضيف عاتكة: “لم أجد حتى من يساعدني بكرسي متحرك”.
طفلة كـ ربة بيت! “حملت معي الكثير”
“عملتُ من قبل في البناء وكان دخلي يكفيني لرعاية أولادي إلا أن الحرب حرمتني هذا العمل”, وإذ يروي الأب بجاش علِي القصة من زاويته, لم ينس لحظة أم أولاده التي رحلت عنه “قبل عشر سنوات تقريبًا [قبل اثني عشر عامًا بحسب ابنته] بموت طبيعي وكان عمرها يناهز الثلاثين”.
في قعطبة “أصبتُ في صدري” لكن المعلومات لم تكتمل لديه أو هذه إفادته “لم أعلم حينها من أسعفني ودفع قيمة علاجي, وما زلت أجهل الذي أطلق عليّ”, وواقع الحال “أنني ما زلت أعاني مما حدث” دون مزيد المعلومات. ولما قاده الاضطرار إلى العمل “في خياطة الأحذية لتوفير الغذاء للأطفال” الستة, كان ذلك على الرغم من أنها “مهنة متعبة بسبب الإصابة”.
تحدق عيناه في القدم المكسورة “عاتكة ربة بيتي, حملت معي الكثير, لكنها أضحت تعاني هذا الكسر أيضًا” وإذ تُلاحَظ لغة انكسار فادح, يشير بجاش إلى حجم المصاعب التي نالتها الربة/الطفلة “رحيل والدتها وجوع إخوتها وحرمانهم من التعليم جراء النزوح وإصابة أبيها, وهذه الحادثة” التي لكأنما أكملت المأساة من جوانبها.
“زارت المخيم بعض منظمات الإغاثة, خاصة في مجال الغذاء. قدمنا طلبًا بعلاج عاتكة ولم نتلقَ ردًا منذ أصيبت قبل ستة شهور”, قال.
لا نريد الجوع مرة أخرى
طلبُ عاتكة العاجل أن تعود إلى قدمها القدرة على الحركة أولًا, وحلمها وإخوتها الصغار أن تتوقف الحرب لحتى يتمكنوا من العودة إلى مدينتهم ومنزلهم الصغير ومدرستهم وأصدقائهم “لا نريد الجوع مرة أخرى, ولا النزوح ولا الحرب”.
المصدر : منصة صوت انسان