كريتر نت – متابعات
على رصيف ميناء فيليكستو في المملكة المتحدة الذي تشحن منه يوميا 11 ألف حاوية نحو جميع أنحاء العالم، تستعد سفينة “إم إس سي روبي” للمغادرة بعد انتهاء مهمة ضابط الشرطة آدم جيبسون المكلف بالتفتيش عن السيارات المسروقة.
وبين أجنحة السفينة المتجهة إلى جزر الكناري في إسبانبا وحاوياتها الكثيرة، يقر الضابط جيبسون بعجزه عن أداء مهمته التي تتطلب الكثير من الجهد والوقت الذي لا يمتلكه.
وأمام ذلك المشهد، ينكشف للمعنيين حجم معاناة البريطانيين من عصابات السرقة التي وسّعت من دائرة استهدافها لسلع الأغنياء الغالية، وتهريبها وبيعها في أسواق الطبقات المتوسطة، أو الفقراء في البلدان النامية.
وكشف تحقيق صادر عن مجلة “الإيكونوميست” البريطانية أن موانئ العاصمة لندن أصبحت مركزا لسرقة وتهريب السيارات الفاخرة والهواتف الحديثة، حيث ارتفع عدد المركبات المسروقة في البلاد بنحو 75% في السنوات الأخيرة.
وأشار التحقيق إلى أن العاصمة لندن أصبحت تعرف بـ”عاصمة سرقة الهواتف” في أوروبا نظرا لارتفاع حالات الإبلاغ عن اختفاء تلك الأجهزة وبيعها في أسواق الصين، حسب ما كشفته برامج التتبع.
ولا تقف السرقة عند السيارات والهواتف، بل أصبح المزارعون البريطانيون يعانون من سرقة جراراتهم التي يتم تهريبها عبر الموانئ إلى أوروبا.
توسّع المنظمات الإجرامية
في الفترة الأخيرة، زاد نشاط العصابات المتخصصة في السرقة والتهريب من المملكة المتحدة، مستغلة نشاط الموانئ وازدحامها.
وغالبا ما تتجه المسروقات من السيارات نحو أفريقيا، في حين تذهب الهواتف نحو الصين، والجرارات وأجهزة تحديد المواقع إلى روسيا وأوروبا الشرقية.
وتزامنا مع العولمة وزيادة النشاط التجاري، تغيرت طبيعة الاحتيال وأصبحت عصابات السرقة أنظمة لوجستية متكاملة، تعمل عبر سلاسل إمداد عالمية مدعومة باتصالات مشفرة وخدمات خارجية متخصّصة يمكن أن يطلق عليها “شركة السرقة الكبرى العالمية”.
ويقول إيليا غلانتس من مركز أبحاث المعهد الملكي للخدمات المتحدة إن بريطانيا مكان مثالي لهذه الأعمال، نظرا لسوقها الاستهلاكي المشبع وضعف ضوابط التصدير، إذ هناك الكثير من السيارات والهواتف باهظة الثمن التي يمكن سرقتها، ومن السهل الحصول عليها أيضا.
ويضيف غلانتس أن انخفاض نسبة الردع أسهمت في تصاعد عمليات عصابات الاحتيال، إذ إن الشرطة البريطانية تسهم في حل 5% فقط من الجرائم، ومعالجة 2% من جرائم سرقة المركبات.
وليست المملكة المتحدة وحدها التي تعاني من هذه الظاهرة، بل انتشرت في قارة أوروبا وكذلك دولة كندا، لكن بريطانيا تبقى البلد الأبرز لتفشي هذه العمليات.
ورغم الانتشار، فإن المملكة المتحدة تعتبر نفسها متلقية للجريمة وليست مصدرة لها كما يقول غلانتس.
وفي ما يتعلق بالسيارات، فقد ارتفعت نسبة السرقات من 90 ألفا في عام 2020 إلى 130 ألفا في عام 2024، مما أدى إلى ارتفاع كبير بنسبة 45% في تكلفة تأمين السيارات.
هذه البيانات جعلت المواطنين يعانون من مشكلة سرقة المركبات، إذ يقول دان توملينسون، النائب من حزب العمال عن ضاحية تشيبينغ بارنيت، إحدى ضواحي شمال لندن، إن جرائم المركبات “هي مشكلتي الأولى”.
سيارات نحو الكونغو الديمقراطية
وعادة يستخدم اللصوص معدات متخصصة، وبمجرد أخذهم للسيارة يجعلون عليها لوحات أرقام مزيفة ويستخدمون أجهزة تشويش لتعطيل تتبع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، ومن ثم ينقلونها، عبر حدود المقاطعات التي غالبا ما يكون التعاون فيها بين قوات الشرطة ضعيفا.
وبعد دخولها لمقاطعات جديدة لا يتوقّع أن يتم فيها البحث عنها، تُباع لمجموعة تُعنى باللوجستيات.
وفي أغلب الأحيان، تستعين العصابة بفريق ثالث لمنح السيارة هوية جديدة ليس فقط على الأوراق، وإنما بعلامات تتضمن رقم تعريف السيارة، وهو رمز خاص مطبوع على هيكلها، وغالبا ما تستغرق هذه العملية بأكملها-من السرقة إلى الحاوية- أقل من يوم واحد.
وعندما تكون السيارة ذات دفع رباعي من نوع هيلوكس التي يبلغ سعرها جديدة نحو 54 ألف دولار أميركي، فإن العصابات تتقاضى على سرقتها 1500 جنيه إسترليني، وإذا تم نقل سيارة هيلوكس إلى غرب أفريقيا يمكن بيعها بسعر أعلى من سعرها في بريطانيا.
وفي الفترة الواقعة بين عامي 2021 و2024، كشفت الوثائق أن كل 4 سيارات من 10 تم اعتراضها في موانئ بريطانيا كانت مسروقة ومتوجّهة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تعتبر مركزا مثاليا لخدمة السوق الأفريقية المتنامية.
كما كشفت الوثائق أن كل سيارة من 5 سيارات تم اعتراضها متوجهة إلى الإمارات العربية المتحدة كانت مسروقة.
أما بالنسبة للهواتف، فتشير التقارير إلى أنه في العام الماضي تمت سرقة ما لا يقل عن 70 ألف هاتف من مدينة لندن، وهو ما يمثل زيادة تفوق الثلث في العام الماضي.
وهكذا فإن بريطانيا أصبحت سوقا لسرقة الهواتف، وتمثل 40% من مجموع عمليات السرقة في أوروبا.
وفي حين تصدّر غالبية السيارات ذات الدفع الرباعي المسروقة إلى أفريقيا، فإن التحقيقات تشير إلى أن معظم الهواتف المسروقة تُباع في سوق هواكيانغبي في شنتشن بدولة الصين والمصنّف بأنه أكبر سوق للإلكترونيات في العالم.
ومن العوامل التي أسهمت في ذلك أن الطلب على الهواتف المستعملة في الصين هائل، والهواتف التي لا يمكن فتحها تُفكك ويعاد تركيبها في هواكيانغبي.
ووفقًا لدراسة أجراها زيتو وانغ من جامعة جنوب كاليفورنيا، فإن المصدر الرئيسي للهواتف المسروقة التي تم تحديدها في الصين هو بريطانيا.
وفي سياق توسع أعمال العصابات، استُهدفت المزارع البريطانية منذ أن أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى فرض عقوبات على التجارة القانونية.
وفي عام 2023، ارتفعت قيمة المطالبات بأجهزة تحديد المواقع العالمية (GPS) المسروقة بنسبة 137%.
مكاسب كبيرة
والواقع أن هذه التجارة فيها الكثير من المكاسب، ونظرا لاختلاف القوانين بين البلدان المرسلة والمستقبلة، فإن التعاون للحد من هذه الأنشطة قد لا يكون متاحا في الأمد القريب.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الرسوم الجمركية تزيد من تنافسية السلع المسروقة، كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على بعض البلدان تحفز الطلب على النشاط الإجرامي، وعندما تكون الدول أقل تعاونا يسهل شحن السلع إليها بحكم صعوبة استعادتها.
وعلى ذلك الأساس، فإن الدول المستفيدة من هذه التجارة لا تملك حافزا يُذكر للحد منها، فعلى عكس الدول الأوروبية، لا تُصعّب السلطات الصينية بيع الهواتف المسروقة لأنها ليست جزءا من السجل المركزي لهوية المعدات، الذي هو قاعدة بيانات عالمية تستخدمها الشبكات لحظر الأجهزة المسروقة.
ومما يصعب من استعادة البضائع المسروقة تكاليف الشحن من الأماكن التي أرسلت إليها، وهو ما يجعل شركات التأمين لا ترغب في استرداد السيارات لأنها قد تضيف عليها أعباء غير بعيدة من أسعار التعويض لأصحابها.
لماذا تزدهر هذه التجارة؟
في المستقبل، ربما يزدهر قطاع سرقة الأموال العالمية في بريطانيا نظرا لنقاط ضعفها الخاصة التي ربما يكون المجرمون هنالك أسرع في اكتشافها.
وغالبا ما تكون مدينة لندن الجهة الأولى التي تظهر فيها أساليب مبتكرة في الجريمة، ومن خلالها قد يتم تصدير هذه الأساليب إلى بلدان أخرى من القارة.
وهنالك 4 عوامل قد تكون وراء ازدهار تجارة المسروقات في بريطانيا وهي:
1 آلية شحن الحاويات: إذ تركّز سلطات الحدود عالميا على الواردات للبحث عن المخدرات والأمور الخطيرة، وفي حالات نادرة يتم فحص الصادرات بدقّة، كما أنه يمكن لأي جهة حجز حاوية، وقسم كبير من حاويات الشحن لا يفتح أو يفحص بالأشعة السينية إلا عند الاشتباه أو التبليغ، وما يفحصه الضباط قليل نسبيا بسبب تكاليف الحجز والتفتيش في الموانئ البحرية، لأن الشرطة ملزمة بدفع 200 جنيه إسترليني مقابل كل حاوية يتم الدقيق في محتواها.
2 الاتصال المشفّر والإنترنت: إذ سهلت ثورة الاتصالات بيع البضائع وتحويل الأموال والتنسيق بين فرق متعددة جغرافيا، مما جعل عمليات الاتجار أسرع وأنجح مما كانت عليه في السابق.
3 العرض والطلب: ومع ارتفاع أسعار السلع الفاخرة وتزايد الطلب عليها في الأسواق النامية، صار من المجدي سرقة وبيع هذه السلع، لأن المستهلك المتوسط في الصين أو أفريقيا قد لا يحصل على سعر المنتج الجديد، فأصبح يلجأ إلى البدائل وبذلك تزدهر سوق المنتجات المستعملة المسروقة.
4 القصور في إنفاذ القانون: ورغم بعض النجاحات التي حققتها وحدة مكافحة الجريمة المنظمة في بريطانيا مثل اعتراض 550 سيارة في العام الماضي، تظل الموارد البشرية والفنية محدودة، حيث لم تتمكن الشرطة من القبض على أي من كبار المسؤولين في هذا المجال.
ولا تمتلك بريطانيا ولا القوات الأوروبية فرقا متخصصة في هذا المجال، لأنه في جميع أنحاء العالم الغني، تميل الشرطة إلى توجيه مواردها نحو الجرائم الأكثر ضررا مثل المخدرات والسلاح وغير ذلك مما يهدد أمن المجتمع.
وفي حين تلحق هذه التجارة أضرارا واضحة بمستهلكي الدول الغنية، فإن الدول المستفيدة اقتصاديا لا تملك حافزا كافيا لكبحها، وفي كثير من الحالات تكون البضاعة قد خرجت من الحدود وأصبح استردادها من الصعوبات البالغة، ويتطلب الكثير من الجهود.
وهكذا بفعل أعمال العصابات المتمرسة، تنتشر سلعة مسروقة من شارع في لندن عاصمة المملكة المتحدة إلى سوق مزدحم في كينشاسا بجمهورية الكونغو الديمقراطية، أو شنتشن بجمهورية الصين.