بناه الملك ” فاروق ” وافتتحه الزعيم عبد الناصر وصار أيقونةً للحرية ورمزًا لثورة 25
كتب : محمد علي محسن
حلقة اليوم خصصتها للحديث عن ساحة ومجمع التحرير ، فالأثنان ارتبطا وجدانيًا وذهنيًا بثورة 25 يناير 2011م ، فمنذ أول تظاهرة للشباب المصري والمجمع والساحة والجماهير صارت جزءًا من التاريخ الحديث الذي لم يقتصر على بلاد الكنانة وانما امتد تأثيره لدول الأقليم العربي ، ان لم نقل انَّ المكان بات وجه مصر الجديد ، وحيثما حللت أو ذهبت في هذا العالم الفسيح القريب .
قلتُ في أول حلقة أنَّني زرتُ الساحة ، تعبيرًا عن تضامني الكامل ، مع ثورة الشباب المصري ، فمهما بدت الصورة قاتمة واحيانًا مأساوية ، وقليلًا ايجابية ، إلَّا ان فعل الشباب كان عظيمًا ونبيلًا ولا ينبغي الحكم عليه ولمجرد ارتكاسة هنا او اخفاق هناك ، فالثورات في طبيعتها نقلة فاصلة وقطعية بين ماض ٍ ساد ومستقبلٍ سيكون .
وإذا كانت ثورات امريكا وفرنسا وروسيا قد أخذت وقتًا طويلًا كي تتحقق بعض من مبادئها ، فكيف بثورات تخلقت من واقع يرفل بالاستبداد ، والجهل ، والفقر ، وزد لها العصبيات الاثنية والدينية والجغرافية .
فثورة امريكا استغرقت عشرون عامًا ، كما وظلت الثورة الفرنسية عشرة أعوام كاملة ، والثورتان استنزفتا ملايين البشر ، واهدرت مقدرات عقود من الزمن . امَّا الثورة الروسية فسنواتها الست خسرت فيها أكثر من اربعة عشر مليونًا خلال الحرب الأهلية ، ومع هذه الوقائع الصادمة انتصرت الثورات في هذه الدول ، وقليلًا من يتذكر اخفاقها وقرابينها .
وبما ان حديثي منصبًا في المكان الذي شهد أعظم وأنبل ثورة في التاريخ العربي الحديث ، فليكن إذًا حديثًا عن مجمع التحرير وساحته ، فصورة الاثنين ستظل راسبة في ذهن اجيال الحاضر على الأقل ، فكلاهما المبنى والساحة انطبعا في ذهن الملايين من البشر ، كصورة معبرة ودالة عن ثورة شباب مصر .
ومرد ذلك قنوات الفضاء ، ووسائل التواصل ، والصحف والمجلات الورقية ، وأخيرًا الدراما والسينما ، فكل هذه الوسائل البصرية نحتت المكان والجماهير في ذهن وذاكرة كل المتابعين والمهتمين بمجريات ثورة 25 يناير في مصر ؛ لهذا فما من كلام عن تلك الثورة النزيهة بعدالة مبادئها وعظمة تضحياتها إلَّا وتجد صورة المكان حاضرة وبارزة .
قصدته بمعية الدليل الارشادي الدكتور احمد قاسم ، الذي مكنَّته العشرين عامًا من اقامته بالقاهرة من معرفة المدينة والالمام بمجاهيلها ؛ ولهذا لم يستغرق وجودنا في الدور الأول من المبنى الضخم الملتهم لكثافة بشرية كاثرة ، غير ساعة زمن ، قدَّمت بها جوازي السفر الخاص بي وبزوجتي ، وبعيد دقائق في طابور الانتظار، تسلم موظف الهجرة الجوازين ، ومهرهما بختم الاقامة المجانية لستة اشهر قابلة ، وما علمته من رفيقي احمد ان التجديد لمدة تالية تستلزم دفع خمسمائة جنيه مصري عن كل شخص ؛ نظير تجديد اقامته ثانية .
ومنذ عام تقريبًا تم نقل الهجرة والجوازات والجنسية من التحرير إلى العباسية ، حيث يوجد المبنى المستقل والحديث والمكون من اربعة ادوار ، وبرغم بعده مقارنة بقرب سابقه، إلَّا ان ما يلحظه الزائر للمكان الجديد هو تجهيزه بكل متطلبات عمل المصلحة من تكييف ، وتأثيث ، وكاميرات رقمية ، ناهيك عن تزويده بصالات استقبال ومكاتب ونوافذ مختلفة وفقًا والاختصاصات والدول ، ما جعل الزحام ضئيلًا ، خاصة مع توزيع المتابعين على ادواره الاربعة .
يضم 41 وزارة وهيئة ويعمل به 9 الآف موظفًا
فمجمع التحرير ، وسط القاهرة ، اعده شاهدًا على تاريخ مصر الحديث ، وعلى ثورتيها 23 يوليو 1952م و 25يناير 2011م ، بل وعلى مجمل الاحداث الحاصلة ، فمنذ انشاؤه عام 1951م في عهد الملك الراحل فاروق ، ومن ثم افتتاحه من قبل الزعيم جمال عبد الناصر بعد ثورة 23 يوليو 1952م ، والمُجمَّع الاداري صار قبلة لآلاف الموظفين والمواطنين والوافدين الذين ينشدونه يوميًا لقضاء معاملاتهم .
وقيل بان المهندس المصري محمد كمال إسماعيل هو من صمم هندسيًا مجمع التحرير ، وبأمر من الملك فاروق تم تشييده على مساحة قدرها 5000 مترًا مربعًا من اجمالي 12500مترًا لكامل المجمع والحديقة الملحقة به ، ويتكون المجمع من 14 طابقًا تضم 1365غرفة ، وفي داخل هذه الطوابق والغرف تعمل 28 هيئة حكومية ، الى جانب 13 وزارة حكومية ، وهذه الهيئات والوزارات يعمل فيها نحو 9000 موظفًا في مختلف النواحي .
وما يمايزه عن سواه هو سعة صالاته وكثافة نوافذه وممراته ، فضلًا عن اطلالته المهيبة على أمكنة حيوية نابضة بالحياة والجمال ، وتنفح زائرها بشيء من سحرها وعبق تاريخها . فيكفي الإشارة إلى انَّه يقع بالقرب من كورنيش النيل ، المكان المحبَّب الذي ولعت بجسره الواصل بين ضفتي مجرى النهر العظيم .
فلكم عاد بي الجسر والنهر لتذكر لحظات جميلة ولذيذة ومسروقة عشتها قبل ثلث قرن او يزيد ؟ فكيف لا أحنُّ الآن لأوقات كتلك التي رأيت فيها أنهار روسيا واوكرانيا وهي سابحة وسط اديم اخضر ساحر مبهج لنفس فتى عاني وقتئذ من صبابة الوجد والاغتراب ؟.
أمَّا تصميم المُجمَّع فكان بديعًا وعلى شاكلة مقدمة سفينة ، وهو ما وضعه في مصاف المباني الاكثر جاذبية وشهرة ، علمًا ان المهندس كمال هو ذاته مُصمِّم دار القضاء ، كما وأشرف في فترة من الفترات على مشروع توسعة الحرم المكي .
واقيم مُجمَّع التحرير على انقاض سراي الاسماعيلية الصغرى التي بناها الخديوي اسماعيل ، وكان يروم الملك فاروق بجمع كافة المصالح الحكومية الخدمية في مقر واحد ، تسهيلًا لعمل الجهات الحكومية مع بعضها وتيسيرًا للمصريين والزائرين .
وقيل انه كان مقررًا وضع تمثالًا للخديوي إسماعيل أمام المجمَّع نظرًا لارتباط المكان ” ميدان الاسماعيلية ” نسبة إليه ،وكذا بتسميته ب” مجمع الحكومة ” لكن قيام ثورة يوليو عام 1952م حالت دون تحقيق ذلك ، فمنذ افتتاحه من الرئيس عبد الناصر واسمه بات ” مُجمَّع التحرير ” .
المُجمَّع بين الهدم والتطوير :
ومؤخرًا بدأ الحديث عن مآل المجمَّع بعد نقل الادارات الحكومية منه إلى العاصمة الادارية الجديدة ، فهناك من اقترح بهدمه واقامة فندقًا سياحيًا على انقاضه ، بينما اخرون رأوا بضرورة تأهيله والحفاظ عليه كمعلم وارث ورمزية باتت جزءًا من التاريخ المصري .
وكانت الحكومة المصرية ، برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي ، اعلنت البدء في تطوير ميدان التحرير، ضمن جهود تطوير القاهرة التاريخية ، التي تقوم بها الحكومة حاليًا ، ودخل مجمع التحرير ضمن خطة التطوير ، وقيل ان التكليف الرئاسي للحكومة فيه اشارة واضحة للإبقاء على المجمع ، ومن خلال خطة طموحة ترمي لتأهيله وتطويره والاستفادة من مساحته .
وأيًا يكن الأمر، فما من احد سينسي المجمَّع وساحته ، فمن هذه الساحة انطلقت مسيرة مصر الجديدة ، ومن جوار هذا المَعلَم قُدِّر لشباب مصر الاحرار حمل راية ثورة التغيير السياسي الديمقراطي .
كما والمهم ان المكان سيبقى في ذاكرة أجيال تلو أجيال كأيقونة نابضة بالصخب ، والحيوية ، والاحلام الكبيرة ، والكفاح المعفر بدم الانقياء ، وهذه مجتمعه يستحيل ان تُطمر بهدم المجمَّع او تطوى بمحو الساحة ، فكلاهما المبنى والميدان ، بالنسبة للملايين الحالمة بغد أجمل وأفضل ، أهم بكثير من الساحة الحمراء في موسكو ، ومن تمثال الحرية في نيويورك ، ومن سجن الباستيل او برج إيفل في باريس .