أ . وليد صالح عياش
رئيس مؤسسة نداء للتعايش والبناء
خرج السيد ريمي روحاني اليوم إلى الحرية تنفيذًا للحكم التاريخي الصادر عن محكمة الاستئناف في الدوحة ببراءته من جميع التهم المنسوبة إليه، لتُسجِّل قطر بذلك لحظة فاصلة في مسار العدالة والكرامة الإنسانية، وتؤكد أن القضاء فيها قادر على تصحيح المسار متى شابه الخلل، وإحقاق الحق أمام العالم أجمع.
حين كتبتُ قبل أسابيع مقالتي بعنوان “محاكمة الضمير في قطر: حين يتجاوز البشر اختصاص الله”، كان الدافع إليها خوفي الصادق على قطر من أن تُساق إلى سبل التعصب والتطرف، وأن تُبتعد عن روح القرآن الكريم الذي أسس لحرية المعتقد و الضمير الإنساني.
واليوم، وبعد حكم محكمة الاستئناف ببراءة ريمي روحاني، أكتب بروح مختلفة: بروح الامتنان والاطمئنان.
فما صدر لم يكن حكمًا عادلًا فحسب، بل كان مسارًا تصحيحيًا أصيلًا، يسير في طريق الفضل الإلهي الذي يتحلى به صاحب السلطان الحكيم والحصيف ، ويضع قطر في موقع منسجم مع روح القرآن ومع القوانين والمواثيق الدولية التي بلغت إليها الإنسانية اليوم.
إن هذا الحكم لم ينتصر لشخص بريء فقط، بل انتصر على أوهام التطرف وادعاءات امتلاك الحقيقة المطلقة، التي فندها القرآن الكريم بقوله:
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: 24].
فالحقيقة المطلقة بيد الله وحده، أما وظيفة البشر فهي صون كرامة الإنسان وحريته لا الوصاية على ضميره.
إن ما حدث في قطر هو تفعيل حي للروح القرآنية التي طالما حاولت “الفرعونية” طمسها حين حرمت الناس من حرية اختيار معتقدهم. وهو المسار نفسه الذي وصفه القرآن حين قال على لسان فرعون:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26].
وبانتصار القضاء القطري للحرية والحق، انتصرت قطر حكومةً وشعبًا، وأكدت أنها تسير في درب الرحمن وتجانب دروب الطغيان.
وإنني، كمواطن يمني أنتمي إلى هذه الأمة العربية والإسلامية، واعتنقت الديانة البهائية قبل عشرين عامًا، قد عانيت مرارة الاضطهاد على يد الحوثيين الذين دمّروا وطني اليمن الحبيب، مدفوعين بغرور ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وهو السبب ذاته الذي دفعهم إلى سجني وتعذيبي أكثر من ثلاث سنوات، كما فعلوا مع غيري من المختلفين دينيًا. ومن موقع هذه التجربة، أوجّه دعوة صادقة لكل من يضطهد المختلفين في الدين أو يحرم أبناء شعبه من حقهم في اختيار إيمانهم بأنفسهم: أن يحذوا حذو قطر في هذا المسار السوي الذي يحقق رضوان الله، وينسجم مع نداءات الضمير الإنساني، ويصون المجتمعات من الفتن والانقسامات.
ولا يفوتني أن أشيد بالمسار الجديد الذي تنتهجه المملكة العربية السعودية بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، و الإمارات العربية المتحدة برئاسة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، و جمهورية مصر العربية بقيادة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، و مملكة البحرين بقيادة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، بتوجههم الصادق في تعزيز الحرية الدينية وتحفيز بقية الدول على المضي في هذا الطريق. فهذا التوجه إنما هو انسجام مع أمر الله، العاصم من قهر الإنسان لأخيه الإنسان، والمعطي للإنسان حق السير إلى الله كما أراد الله، لا كما يريد البشر.
ختامًا
إن القرار التاريخي ببراءة ريمي روحاني يمثل علامة فارقة في مسيرة العدالة في قطر، ويعكس نزاهة القضاء فيها واستقلاليته. لقد أثبتت قطر بهذا الموقف أنها حريصة على صون حقوق مواطنيها، وعلى أن يسود ميزان العدل فوق كل اعتبار. وأجدني ممتنًا لحضرة صاحب السمو أمير دولة قطر، الذي يرعى ثقافة العدالة والتعايش، وللقضاء القطري الذي أثبت قدرته على تصحيح أي خطأ وإحقاق الحق.
إن ما جرى في قطر اليوم لا يمثل فقط انتصارًا للعدالة، بل هو توجه حضاري نحو ترسيخ ثقافة التنوع واحترام المعتقدات، وهو ما يبعث برسالة أمل مشجعة إلى شعوب المنطقة بأسرها، بأن مستقبلًا أكثر إنصافًا وسلامًا لا يزال ممكنًا.