قصة بقلم ;سالم فرتوت
اوشكت المعركة على الانتهاء,عصر ذلك اليوم,قبل ستين عاما من الآن_وحميدان مازال يبحث عن عصا !ترك أصحابه الأربعة يخوضون شجارا عنيفا ضد خمسة شبان شداد مهرة في الشجار .خامسهم وهو الذي تقرر ان ينازله سرعان مالاذ بحائط قشي,انتزع منه عودا غليظا ,ووقف يرقب الشجار بعينيه الشبيهتين بعيني القط.وإذا ما أحس بضغط على أحد أصحابه تدخلت عصاه وخففت عنه,فينسل مبتعدا عن ساحة الشجار ,التي هي عبارة عن فسحة ا,حيث تباعدت عندها البيوت المتقابلة في منتصف ذلك الزقاق الذي ربما كان من سوء حظه أومن حسنه أن زبيدة الحلا إحدى بناته!زبيدة ذات الجمال والظرف التي ماان تقع عينك عليها إلا اسرتك,وكم من شاب تقدم يطلب يدها ,وكم من كهل مقتدرين فردتهم خائبين.
وهاهم عشرة شبان بين العشرين والثانية والعشرين يخوضون عراكا حاميا,طمعا في باهتمام منها,فقد أخذ حميدان وأصحابه منذ ايام بترددون على حافة زبيدة_كما أسموها_فعند العصر يرتدي كل منهم معوزه,وقميصه ذا الكم القصير.ولف حول رأسه قطعة قماش وامالها يسارا باتجاه جبينه,وما ان تطأ أقدامهم أرض حافة زبيدة إلا واصطفوا أفقيا ,ويد كل منهم تحضن الذي الى جانبه,ومضوا راقصين وهم يدندنون,و أقدامهم تضرب الأرض,حتى إذا بلغوا آخر الزقاق,استداروا بحركة رشيقة.وقد قوس كل منهم ظهره متقاربين.يتوقفون قليلا يرتبون صفهم.ثم يحملهم هواهم إلى تلك الساحة.هناك حيث يقع بيت ذوي زبيدة,وحيث تجتمع عند بابه هي وصويحباتها.
كانوا خمسة,أحدهم عبيد ربعة القامة,الادهم المقدام,وأحمد الطويل النحيل, لكنه الماهر في خوض الشجار,وسعيد القصير,والقصر كما تقول امه قصر الذهب والطول طول الخشب,ومنصور البدين.
توقفوا للرقص أمام زبيدة لليوم الثالث,يعزف لهم عبيد ويشعر,وما من أحد جرؤ على منعهم .
جاءهم مسعود بطل حارة زبيدة وحارس عرضها, ومعه رفاقه,وقال مخاطبا عبيد:لا عادك جيت بكرة باكسر رجلك ياعبيد.
تجاهله عبيد,ووضع يده اليمنى حذاء أذنه, ولحن الرد التالي:(ألا داني داني علىامداني ألا أنا دي باكسر رجلك وامسعود وعادني بازيد اعور عينك بالعود)!
وغادرهم مسعود تاركا تحذيره يحوم حولهم,فهو قبل أن يخوض عراكا يحذر وينذر,ثم ياويلك منه!
وجاء عبيد وصحبه عصر اليوم التالي,جاؤوا ليس حبا في العراك,لكن خشية من أن تقول زبيدة عنهم:(يه فزعهم مسعود حبيب الصباح مش عاد جو)!
لكنهم جاؤوا,ليجدوا مسعود وشلته في انتظارهم.فهذا زيد الذي يهيم في ما يسميه قلة الخير,وذاك ناصر البدين,وسعد الأسود المتجهم في كل الاحوال,وخامسهم مرجان الخبيث المميز باسنانه البارزة وعيني القط.وهو الذي عتدما لم يجد من ينازله,وقف بالمرصاد لعبيد وأصحابه.وكادت عصاه أن تحسم المعركة لصالح أبناء حافته,لولا أن عبيد ترك مسعود,يفعل به مايشاء ,ليمسك عصا مرجان فينزعها من يده ويضربه بها على أم رأسه حتى سقظ مغشيا عليه! فسارع إبن عم له إلى البئر القريبة منهم وجاءه بدلو ماء صبه عليه,وماان أفاق إلا واستل عصا أخرى,وعبيدان مازال يبحث في الزقاق عن عصا صلبة يكسر بها رأس مرجان وأصحابه
ويده اليمنى تلوح مهددة بعصاه, يميل يمينا ويسارا بحثا عنه!ا وكلما التقط عصا رماها اسفا فهي إما معوجه وإما مهترئة ,وامتدت يده إلى أكثر من حائط قش,انتزع عصا من هنآ أو هناك مخلفا قعقعه ,ولم تلبث العصا في يده عدا هنيهه ثم يرميها,ولسان حاله يقول:(أوه هذه معوجه وهذه مهترئة )!
وفي الساحة حمي العراك,وانتشربعض الأهالي هنا وهناك يتايعون شقاوة أولئك الاولاد دون أن يجرؤ أحد على التدخل لفض شجارهم,فقد حذروا الجميع من مغبة ذلك!
لتشهدي يازبيده,إذا بطولات المفتونين بك.انظري مسعود وعبيد ماذا يفعلان ببعضهما بعضا.انظري اللكم والرفس والعض وغبار الساحة الذي يتصاعد فوق رؤوسهم..
لم يرق للفتاة ذلك,فعبرت بحركة امتعاض من شفتيها عن رفضها له .وانتبهت إلى غياب حميدان عن الساحة,حميدان الذي خالف اصحابه في رأيهم فيها,فكلما اقتربوا منها وهم في صفهم يرقصون توقفوا عن الدندنه,وتقاربوا وقد قوسوا ظهورهم عند الواح اكتافهم متهامسين (الحلا الحلا ماحلاها.بكرة بكرة)وكان تشبيه بكرة للبنت الحلوة شائعا في ذلك الزمان.
كلهم كانوا يمتدحونها عدا حميدان كان يقول كلما حاذوها عكس قولهم:(أنا ذي مش تعجبني مش باها حتى بعانه.ايه عجبكم فيها)
التفتت يسارا,فإذا به,يذرع الزقاق,التقط عصا وسرعان ما تخلى عنها.
استدار,واقترب من ساحة الشجار,اختلس النظر,ورأى ما يفعل مسعود وصحبه وعصا مرجان باصحابه.
ولم يهمه ردود عبيد وبقية فريقه عليهم.
وانشغلت زبيدة بمتابعة حميدان,ويدها على خدها متعجبه.ومالبثت أن فلتت من شفتيها كلمة (تعجبني).
كانت الشمس قد أخذت تميل باتجاه النصف الغربي من السماء,تسترق النظر من وراء سحابة هي مزيج من الابيض والرمادي.وحميدان مازال مشغولا بالبحث عن العصا المفقودة .ووجدت زبيدة نفسها تهمس وكأنه تخاطبه:(تعجبني)! وتناهى
إلى سمعها وسمع حميدان وقع عصا مرجان التي تكسرت بظهري أحمد وسعيد.حتى اختلج جسم حميدان,وسرعان ما انتزع مرجان عصا ثالثة.وعزت العصي علىحميدان ,ووجدت الفتاة عواطفها يممت شطر هذا (العاقبة) بقامته القريبة إلى القصر.وذات ضحى صارحته بها عندما صدفته هي وصويحباتها,وهن عائدات من الحقول,يسير خلف حمارهم, قد بلغ الطريق المؤدي إلى القرية الذي انتشرت على يمينه ادغال مؤلفة من أشجار الاثل القصيره والاراك.
انسلت من بين البنات وانسابت رشيقة وعلى رأسها كومة علف,وعندما لم يبق بينها وبينه خطوة قالت:(تعجبني ياثعيل).
التفت فإذا زبيدة خلفه زبيدة بشحمها ولحمها..
ازبيدة تقول له ذلك؟ لابد أنها تسخر منه, رد ممتعضا:(اعجبش بايش)؟
(بهذا )وأشارت إلى رأسها
(أيش الحشيش).
(هاي ياالغشيم)
وتضاحكت البنات خلفهما
(أنا غشيم مسكين الله).
اقتربت منه أكثر,وتوقفت اتانه محنية رأسها باتجاه عشبة في الطريق,فهتف بها (سع…حي).قالت له زبيدة :(هيا تلقى مني حملي).ولم يتردد,ووجهت عيناها نحو عينيه بينما هي تنزل علفها من رأسها.وكادت تسقط من يدي حميدان.وساعدته على الامساك بها وقد حدث تماس بين يديهما.وضع علفها على ظهر الحمار وسط عدلين على جانبيها ,وامسك به من جهة وهي من الجهة الأخرى,ومالبثت أن قالت ضاحكة:(بخشبة حمار الشيبة مرزوق باتلابج ياماكر)!
(مله مش حصلت عصا سواء والابا رويه مسعود ومرجان.باكسر ريوسهم).
(هاي يالذيب خليت الهبل يتماوتوا وانته بطيت تدور على عصا..ولما شفت بابور الشرطة جاي جيت تداحر خشبة اكبر منك) .
وكان بعض المواطنين ابلغوا مركز الشرطة بالشجار.
وما إن لمح السيارة قادمة إلا وحمل تلك الخشبة وهرع بها أفقية مائلة.وإذ دخلت السيارة الزقاق.سار هو بهدوء وحط الخشبية بتؤده.كأنه لادخل له بالشجار
توقف العراك بمجرد أن رأى الأولاد رجل الشرطة نازلا بعصاه السوداء..
إلا . ذلك لأنه كان للشرطة ورجالها هيبة.أمرهم بصعود السيارة,وقال مسعود:(باقي حميدان حميدان معهم)وتطلع الشرطي بعينيه وقال:(وينه هذا حميدان)؟قدم حميدان مرتبكا,وقبل أن يصعد السيارة فوجئ الشرطي بصوت نسائي يقول له بكل جرأة:(حميدان مش معاهم مش شفناه يلابج حد ليش باتحبسوه)؟
ذهل الشرطي عندما وقعت عيناه على صاحبة الصوت ! وكاد ينسى مهمته,ولم يسمع عجوز في الستين وهو يؤكد على قول زبيدة بل سمع قولها ثانية:(سمعت يابوي )!
لم يتردد في إطلاق سراح حميدان.فقد ظنه قريبها_وكما قال لسائقه:(انهالو طلبت منه أن يترك الجميع لما تردد)!
ذكرت زبيدة حميدان بأنه لولاها لكان الآن في الحبس مع الدوعان وسألته :(داري ليش خرجتك)؟
(ليش )؟
(لأني حبك)!
تحبه! احقا تقول أم أنها تهزأ .لم يدر بماذا يرد عليها!فاستطردت هي مذكرة اياه بقوله:(والا أنا مش أعجبك ومش تباني حتى بعانه)!انتابه الإحراج فقال:(أنتي مش تعجبيني منوه قال..بس انا قلت زبيدة دي البت من كم واحد باترضى انا)؟فهتفت مغضبة :(ليش انته مش رجال)؟!
وانتفض قائلا :(رجال إبن رجال).
(يالله لنته رجال اخطبني شعني باك حراوة ).
والبنات خلفهما يتهامسن ويتضاحكن
حدث ذلك وأولئك الشبان في الحبس,حيث أمضوا أسبوعين,وقد علموا من ذويهم أن الولدة ,اختارت حميدان لأنه ذو عقل راجح.فضحكوا ساخرين من أنفسهم ,وتصالحوا,وعشية خطبته أقاموا له حفلة رقص ,شعر فيها المتشاعر عبيد:(ألا هنيا لك واحميدان…هنيا لك قمر شعبان).
ولحن شعره,ووقع الطبال على الطبلة وسط دائرة ضمت رجالا ونساء أ من أعمار مختلفة,وكان القمر سراجهم.
فرقصوا حتى مطلع الفجر.وقبل انتهاء حفلتهم جاؤوا بحميدان إلى وسط الدائرة,وهتفوا قائلين:(رجزوا العروس رجزوه),وزغردت أم حميدان! بينما عبيد قد حمله إلى أعلى ما يستطيع وهذا يضحك ,والقاه أرضا فحط على عجيزته واراد أن يهرب فوقع في يد مسعود.
لكنه في المرة الثالثة تملص من مرجان الخبيث
وقبل انفضاض الحفلة,أنشد عبيد:(ألا هنيئا لك وا حميدان
وادي بطيت تدور عصا
ونا ظهري كسرته عصا مرجان),
وضحكوا جميعا,وعادوا إلى بيوتهم بقلوب ملؤها المودة و السرور!