كتب : د. علي صالح أبو شامة
الكتابة عن الرفاق ليست مهمة سهلة، ولا سيما حين يكون الحديث عن أولئك الذين تركوا بصماتٍ لا تُمحى في الذاكرة، ووشموا القلوب بصدقهم ونقائهم. وما أصعب أن تستحضر سيرة مناضلٍ جمع بين الحزم والرحمة، بين الانضباط الثوري والإنسانية العميقة.
ذلك هو الرفيق العميد نصر شايف سعيد، الرجل الذي ظلّ حاضرًا في الذاكرة رغم غيابه الجسدي، لأن المخلصين لا يرحلون حقًا، بل يتحوّلون إلى رموزٍ تضيء دروب الأجيال اللاحقة.
بداية اللقاء
تعرفتُ على نصر شايف سعيد في مرحلةٍ من أدقّ المراحل التي مرّ بها الوطن والحزب معًا. فبعد انتقالي من دائرة الأمن الداخلي إلى الأمن الخارجي، وجدت نفسي في وسطٍ مليءٍ بالتحديات، تتقاطع فيه الولاءات وتتنازع فيه الاتجاهات. هناك التقيت به لأول مرة، وكان ذلك اللقاء نقطة تحوّل في مساري العملي والإداري والحزبي داخل دائرة الأمن الخارجي، برئاسة الشهيد علوي حسين فرحان آنذاك.
منذ الأيام الأولى لتسلّمي مهامي في قسمٍ حساس، لمست في نصر صفات القائد الحقيقي: وضوح الرؤية، دقة التنظيم، وصدق الالتزام. لم يكن كثير الكلام، لكنه إذا تحدث أصاب كبد الحقيقة. كان يلخّص الموقف بجملةٍ واحدة تختصر الحكمة والتجربة معًا.
مواقف لا تُنسى
عملنا معًا في ظروفٍ صعبة، في وقتٍ بلغت فيه الصراعات الداخلية ذروتها. كانت هناك تكتلات داخل الحزب، وكنتُ وقتها شديد الموقف بعد إعدام الشهيد محمد صالح مطيع، غير أن نصر كان يرى الأمور بعينٍ وطنية لا فئوية.
لم يكن يؤمن بأن الخلاف يُحلّ بالإقصاء أو بإعدام المناضلين، بل بالحوار والتفاهم. كان يرفض أن تتحوّل الخلافات السياسية إلى خصوماتٍ شخصية أو تصفياتٍ جسدية. وكان دائم القول إن وحدة الحزب والدولة هي السياج الحامي للثورة، وإن المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار.
كان ثابتًا في الموقف، نقيّ اليد، طاهر السريرة، لا يطلب منصبًا ولا يسعى لمكسب، بل كان همه أن يؤدي واجبه بأمانة وأن تبقى راية الثورة مرفوعة رغم العواصف. وفي تلك المرحلة العاصفة، كان سندًا حقيقيًا لي، خاصةً ونحن – أبناء يافع – كنا نتعرّض لضغوطٍ ومخاطر مضاعفة بعد إعدام مطيع، إذ وُضعنا (وفق تعميم المكتب السياسي في شبكة العملاء لدولة خارجية)
انتُخبتُ حينها سكرتيرًا أول للمنظمة الحزبية في دائرة الأمن الخارجي، وكان نصر سكرتيرها الثاني. حاولتُ إقناعه بتولي منصب السكرتير الأول، لكنه رفض بتواضعٍ نادر، فاشترطت عليه أن يتحمل مسؤولية السكرتير الثاني، وهو ما قبله بروحٍ رفاقية عالي .
كان نصر يخاف على حياتي أكثر مما يخاف على نفسه. وكان يشعر أن المؤامرات تُحاك من حولي بسبب مواقفي، فحذرني من أحد الضباط الذي كان يتجسس عليّ وينقل الأكاذيب إلى القيادة. وللأسف، انتهى مصير ذلك الضابط إلى فقدان عقله.
أحداث كثيرة لا يسع المقام لذكرها، فبعضها ما زال حساسًا رغم مرور الزمن. لكني أقولها بصدق: سامح الله من أخطأ في حقنا جميعًا. فقد كانت صراعات عبثية انتهت بمأساة الثالث عشر من يناير 1986م، التي أضرت بالحزب والنظام والوطن، وأودت بحياة خيرة الرفاق من الجانبين.
بصيرة المناضل
حين لاح خطر الأحداث، نصحني نصر بالسفر إلى بلغاريا لمواصلة دراساتي العليا، خوفًا على حياتي أكثر مما خاف على نفسه. وقد أقنعني بذلك أيضًا الرفيق اللواء ناصر صالح الغلابي، السكرتير الأول لوزارة أمن الدولة، الذي أنقذ حياتي بذلك القرار، رغم ترددي في البداية خشية أن يُساء فهم موقفي. ولعل هذا القدر هو ما أبقاني حيًا لأكتب اليوم عن رفيقي نصر شايف، رحمة الله عليه.
في المنفى واستمرار العطاء
بعد أحداث يناير، حين تفرّقت الصفوف وتشظّت الرفقة، لم يفقد نصر إيمانه ولا عزيمته. واصل عمله الوطني من موقعه في سوريا، محافظًا على صلابة الموقف ونقاء الهدف. جمع الرفاق، وأعاد بناء جسور الثقة، وسعى لترميم ما تصدّع، مؤمنًا بأن الثورة لا تموت ما دام فيها رجالٌ أوفياء مثله.
رجل المبدأ والوفاء
لقد كان العميد نصر شايف سعيد مدرسة في الإخلاص والانضباط، عاش من أجل الوطن ومات وهو يحمل حلمه بوطنٍ حرٍّ كريم. لم يكن مجرد زميل عمل، بل كان أخًا كبيرًا ورفيق دربٍ كان ايماننا أن الثبات على المبدأ هو أسمى ما يتركه المناضل بعد رحيله.
كلما مرّ طيفه في ذاكرتي، شعرتُ أن الزمن يعيدني إلى تلك الأيام الصعبة الجميلة، حين كانت المبادئ أهم من المناصب، والرفاقية أقدس من المصالح.
سيبقى نصر شايف سعيد حيًا في وجداننا ما دام فينا إيمان بأن العمل الوطني رسالة لا يحملها إلا الصادقون.
ختام الوفاء
لقد فقدتُ أعزّ الرفاق من أبناء ردفان الأبية، أمثال: المناضل نصر شايف سعيد والشهيد الدكتور محمد سالم علي، والشهيد محمد ثابت سفيان، والفقيد محمد عبدالله محسن بن سهيل، وغيرهم كثير ممن ضحّوا في سبيل الوطن.
سلامٌ على أرواحهم الطاهرة، وسلامٌ على كل مناضلٍ صادقٍ حمل الوطن في قلبه ومضى.
وأتوجه بوافر الشكر إلى الابن الوفي نادر نصر شايف، الذي ذكّرني بهذه المناسبة الأليمة برحيل والده، رفيقي وصديق العمر.
أرجو له ولأسرته دوام العزّ والفخر، فهم بحق أبناء مناضلٍ كبيرٍ رحل جسدًا، لكن أعماله ومواقفه ستبقى خالدة في ذاكرة الوطن.