احمد عبد اللاه
يبدو أن السؤال ذاته يحمل مفارقة لغوية وسياسية. فالتعبير المتداول عن “المناطق المحررة” يوحي بوجود حالة خلاص نهائي، وانعتاق كامل من وجود خارجي أو من سلطة قاهرة. لكن حين ننزع الغطاء البلاغي عن هذا المفهوم، نجد أنفسنا أمام واقع آخر: مناطق تتنازعها الوصايات وتُقاس فيها الحرية بمساحة الفعل الممكن أو المسموح به أكثر مما تُقاس بمدى السيادة الكاملة.
تُعرّف هذه المناطق بأنها الخاضعة للسلطة المعترف بها دولياً، والتي أُخرج منها الحوثي وحلفاؤه آنذاك عام 2015. غير أن هذا التعريف الشكلي لا يصمد أمام الوقائع اليومية للحياة العامة، ولا أمام معنى الدولة حتى بمفهومها البدائي ولا حقائق الجغرافيا السياسية. فالتحرر، في جوهره، ليس فعلاً عسكرياً فحسب، بل حالة سيادة كاملة على القرار والموارد والمجال العام. ومن هذا المنظور، يمكن القول إن ما يسمى بـ”المناطق المحررة” ليست سوى فضاء رمادي بين حالة تحرر معلنة سياسيا ووصاية مقنّعة على الواقع.
تعيش هذه المناطق تحت وصايتين متقاطعتين:
وصاية التحالف العربي الذي لم يتمكن بعد عقد من انطلاق عاصفة الحزم من إعادة اليمن حتى إلى ما دون مستوى “اتفاق السلم والشراكة”، التي كانت عليه بعد اشتعال الأزمة، وكذلك وصاية أنصار الله الذين يهددون عملياً سلامة الاجواء والممرات المائية ويحاصرون موانئ البترول ويفرضون حالة “ستاتيكو” جيوسياسي تُبقي البلاد في زمن معلّق، لا حرب كاملة ولا سلام فعلي.
هاتان “الوصايتان” تقفان ـ من حيث المصالح ـ على طرفي نقيض تماماً؛ فإحداهما تمارس حضورها بوصفها حاضنة تحت شعار دعم “الشرعية”، والأخرى معادية توجه أدواتها المختلفة لزعزعة الأمن والاقتصاد. غير أن التناقض بين الإرادتين لا يلغي تداخل تأثيرهما في مكان ما، ليصبح حاصل جمع فعلهما على الأرض تعليق المناطق المحرّرة في فراغ مخيف؛ فلا هي أُسندت لتحقيق انتصار أو فرض تسويات عادلة، ولا هي استقرت واستعادت مقومات الحياة.
فالوصاية الأولى تساعد على منع الانفلات، خوفاً من فقدان نفوذ ومصالح التحالف، والثانية تمنع تجاوز حدود مرسومة لحركة “واقع المناطق المحررة” بما يضمن بقاء مفاتيح السلام أو الحرب بيد الحوثي.
وفق هذه المعادلة المزدوجة – سلطة شرعية معلّقة وبلد مؤجّل- تنكمش مساحة القرار الداخلي ويتعذر الخلاص من حالة المراوحة القاتلة، سواء في الجنوب أم في سائر “المناطق المحررة” بشكل عام.
فما دامت “الشرعية” لا تستطيع اتخاذ قرار الحرب والسلام ، أو فتح ملف سياسي أو أمني أو اقتصادي دون موافقة التحالف، وفي المقابل ما دامت أي خطوة سياسية أو اقتصادية تخدم مصالح “المناطق المحررة” تُجمَّد متى ما فُسّرت كتهديد لسلطة الحوثي، فإن الحديث عن “مناطق محررة” لا يعدو أن يكون تكرار للخطاب السياسي المستهلك منذ عشرة أعوام ويزيد.
في جوهر الفلسفة السياسية، المصطلحات ليست بريئة. فـ”المناطق المحررة” تعبير يجمّل العجز ويمنح لباس راكد لمفهوم النصر. أو هو نوع من التحرر في الخطاب الذي يعوّض غياب التحرر الفعلي. فاللغة هنا تفعل ما لم تفعله البنادق ولا الدبلوماسية بشكل نهائي.
إنها حرية مُدارة، حرية مقننة بحدود الرعاة والوسطاء و الهدنات. حرية تُقاس بمسافة الصاروخ الحوثي ومدى التسامح الدولي معه.
حتى ان الهيئات الدبلوماسية بتعدادها الضخم تعكس الواقع الهش لتبدو أقل تأثير من خلايا حوثية نشطة في بلدان الغرب ذات التأثير الأكبر على الحالة اليمنية.
وحين يكون البلد، بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصعاً لتأثير قرارات أممية، فإن ما تبقى من معنى التحرير يضع ألف سؤال، إذ إن القانون الدولي نفسه يفرض قيوداً على الإرادة وحدود السيادة.
وهكذا تصبح “المناطق المحررة” ومعها “السلطة الشرعية”، “رهينة محبسين” أو أكثر، فهناك من يسعى لأن يتملكها وهناك من يسعى لأن يقتلها. وقد قالت العرب قديماً: ليس الذليل مَن قتلتموه وإنما الذليل مَن ملكتموه. فأي صفة قد تطيقها “السلطة الشرعية” هنا؟















