كتب : عبدالكريم أحمد سعيد
في منطقة تزداد فيها تعقيدات المشهد الجيوسياسي، تتبلور ملامح نمط جديد لإدارة الصراعات بين القوى الكبرى والفاعلة، لا يقوم على الحروب المباشرة أو التحالفات الواضحة، بل على لعبة دقيقة من التوازنات الرمادية؛ أي تلك التي لا تعتمد على تحالفات معلنة أو مواجهات صريحة، بل على تفاهمات غير رسمية وتبادلات ميدانية محسوبة بين أطراف متخاصمة ظاهريا، لكنها تتفادى التصادم المباشر لحسابات استراتيجية.
وتعد العلاقة بين إيران، إسرائيل، والولايات المتحدة نموذجا حيا لهذا التعقيد، حيث تتعايش الخطابات العدائية مع تفاهمات ميدانية، ويتقاطع الصراع الظاهري مع براغماتية واقعية تضمن مصالح كل طرف دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
برزت مؤشرات هذا التناغم غير المعلن في محطات عديدة من تاريخ المنطقة: من فضيحة “إيران-كونترا”، إلى الدور غير المباشر لإسرائيل في الحرب العراقية–الإيرانية، وصولا إلى التنسيق الضمني في الساحات السورية واللبنانية. ورغم اختلاف الرؤى والمرجعيات، إلا أن هذه الأطراف الثلاثة تنطلق من تصور مشترك للمنطقة بوصفها فضاءً هشا قابلا لإعادة التشكل في ظل ضعف النظام العربي.
تسعى إسرائيل، عبر اختراقها الناعم والصلب، إلى تطبيع نفوذها في الجغرافيا السياسية للمنطقة. أما إيران، فتعتمد على وكلاء محليين وتحالفات مع قوى دولية لفرض هيمنتها على مناطق النفوذ العربي. في المقابل، الولايات المتحدة الأمريكية تتبع سياسة “إدارة الخصوم”، وهي استراتيجية لا تقوم على الحسم الكامل للصراعات، بل على ضبطها واحتوائها، بما يضمن استمرار نفوذها دون الانخراط المباشر أو السعي لإقصاء أي طرف بالكامل.
والدليل على ذلك ما شهدناه مؤخرا في الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، والضربة الأمريكية الخاطفة التي نفذت دون أن تتحول إلى حرب شاملة، في تجسيد حي لنهج إدارة الصراع دون الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة.
ولا تقتصر لعبة النفوذ على هذه الأطراف الثلاثة، بل تنخرط فيها أيضا قوى إقليمية كتركيا، التي تتحرك من بوابة الجيوبوليتيك الإسلامي، وروسيا التي تستثمر في الفراغات الأمنية والسياسية عبر الحضور العسكري والوساطات متعددة الاتجاهات، ما يزيد من تعقيد المشهد ويُضاعف من تكلفة الغياب العربي.
في خضم هذه المعادلة، يبرز الغياب العربي كأخطر عنصر. حيث تفتقر الدول العربية إلى مشروع استراتيجي موحد، وتتحرك غالبًا ضمن ردود أفعال ظرفية، أو اصطفافات آنية تزيد من هشاشتها. ويكفي أن نُطالع كيفية تعاطي بعض الدول العربية مع أزمات كبرى – كحرب اليمن، أو التوترات المتكررة في غزة ولبنان – لنرى كيف طغت ردود الفعل الانفعالية أو الظرفية على صياغة موقف استراتيجي جامع. بل إن المشهد نفسه يتكرر في ليبيا، وسوريا، والسودان، وحتى في العراق، حيث غالبا ما تغيب الرؤية السيادية الشاملة لتحل محلها اصطفافات خارجية تزيد من تفكك الموقف العربي.
هذا الغياب لا يعزى فقط لعوامل خارجية، بل هو نتاج تآكل داخلي عميق على مستوى الحوكمة والتكامل واستقلالية القرار الوطني. إن الرهان المستمر على الخارج لم يؤدِ إلا إلى تعميق التبعية وتهميش الدور العربي في تقرير مصير الإقليم.
والخروج من هذا المأزق يتطلب بلورة مشروع سيادي عربي شامل، ينطلق من إعادة بناء الداخل واستعادة الثقة بالمؤسسات، وتفعيل أدوات العمل العربي المشترك على أسس جديدة؛ عقلانية، واقعية، وبراغماتية. بل يجب إعادة هيكلة جامعة الدول العربية لتكون مؤسسة اتحادية حقيقية تقارب من حيث الشكل والوظيفة نموذج الاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والسياسية العربية.
في عالم لا يعترف بالفراغ، تصبح اللامبادرة خطيئة استراتيجية. وإذا لم تسعَ الدول العربية إلى استعادة زمام المبادرة وملء هذا الفراغ بمشروع واقعي وفاعل، فسيظل الإقليم رهينة لتوازنات ترسم خارجه، وتفرض عليه، دون أن يكون للعرب فيها صوت أو قرار.