كامل محمد علي
في اللحظة التي نُقدِّم فيها القبيلة على الدولة، ونُفضِّل القرابة على الكفاءة، نكون قد اخترنا بإرادتنا العيش في الماضي، وربطنا مستقبلنا بسلاسل لا ترى أبعد من حدود العشيرة.
فالاختيار على أساس الدم أو المنطقة او المحافظة او التبعية لا يجرّ فقط خللًا في القرارات بل يؤسس لنظام هشّ يقوم على المجاملة لا على الاستحقاق، وعلى الولاءات الضيقة لا على المصلحة العامة.
عندما تتحول القبيلة إلى حزب غير معلن، وتصبح الدولة ساحة لتقاسم الغنائم بين العائلات والجهات كما هو وضعنا الان، نكون قد شوّهنا فكرة الوطن، وحوّلنا الانتماء الوطني إلى بطاقة دعوة لا تصل إلا لأصحاب الأسماء اللامعة في سجلات الأنساب.
في هذه الحالة، ينكمش أفق التنافس الشريف، ويضيق صدر الوطن عن استيعاب كل أبنائه كما ضاق صدر أبنائه به من فضاعة الاستيعاب الجهوي المقيت، ليضيع صوت أصحاب الكفاءة في ضجيج الألقاب والأسماء.
إن معيار الجدارة لا يمكن أن يختزل في إطار قبلي ضيق، لأن الكفاءة لا تختبر في حلقة مغلقة حيث الجميع يعرف الجميع، بل في ساحة الوطن الواسعة، حيث تتلاقى العقول، وتتقاطع الخبرات، ويُحكم على الإنسان بما يقدمه لا بما يرثه او ينتسب له.
القبيلة، بما تمثله من تاريخ وإرث اجتماعي، ليست عيبًا في ذاتها. كانت في الماضي إطارًا للحماية والتنظيم في غياب الدولة، لكن الإبقاء عليها كمرجعية سياسية في عصر المؤسسات والقانون هو رهان على الفشل.
فمن يتعامل مع الدولة بعقلية “الشيخ” لا بعقلية “المواطن”، يرى في المنصب غنيمة وفي القانون عائقًا، وفي الوطن مزرعةً شخصية لا أرضًا مشتركة تتسع للجميع.
هذا الانغلاق يحوِّل التعددية من مصدر قوة إلى سبب للتشرذم، ويحول التنوع من فرصة للتكامل إلى ذريعة للصراع.
فما دام الانتماء للقبيلة مقدمًا على الولاء للوطن، ستظل القرارات رهينة الصفقات، والمناصب حكرًا على من “ينتمي” لا من “يستحق”، وستظل الموارد مهدرة لأن الاهتمام ينصب على توزيع الحصص لا على إنجاز المشاريع.
إن بناء الدولة الحديثة لا يقوم على الثقة العمياء بالقرابة، بل على ثقة تُكتسب بالكفاءة والنزاهة.
فلا يمكن لبلد أن يتقدّم ما دامت الوظائف تُمنح لإرضاء وجهاء العشائر والاقربون من الاهل والحاشية، ولا يمكن للعدالة أن تتحقق إذا بقي القانون خاضعًا لمجالس الصلح القبلي والتغاضي المناطقي لا لنصوص الدستور.
إن الخروج من أسر القبيلة، فكريًا ومؤسسيًا، لا يعني التخلي عن الجذور أو التنكر للتاريخ وهو مالم يفهمه غالبية الساسة وقيادة الوضع ، بل يعني التأسيس لوطن يحتفي بجميع أبنائه بلا تمييز، ويُقدّر كل فرد على ما يقدمه من عمل وإنجاز.
الانتقال من ولاء الدم إلى ولاء الدولة هو الخيار الوحيد لبناء مجتمع عادل وقوي، يضع القانون فوق الجميع ويعتبر التنوع مصدرًا للغنى لا مدخلًا للفرقة.
إنها ليست رفاهية فكرية ولا ترفًا للنخب، بل مسألة مصيرية إما أن نتحرر من عقلية القبيلة والمناطقية فنكسب الوطن، أو نبقى سجناءها فنخسره .