إبراهيم غرايبة
كيف يمكن تنظيم الشأن الديني والمؤسسات الدينية والتعليم الديني من دون تناقض مع الدين أو متطلبات الدولة الحديثة، ومن دون رعاية للتطرف؟
تحاول هذه المقاربة معالجة جملة من الإشكاليات في التعليم الديني بهدف التوصل (إن أمكن) إلى جعل الدين وتعليمه وفهمه وتطبيقه يأتي في سياق منسجم مع ضمير المؤمن وإيمانه ويتفق أيضا مع أهداف الدولة والمجتمع، وبما أن الدين أساسا اعتقاد وتصورات فردية محضة، يتحمل الفرد وحده مسؤوليتها ونتائجها، ولا يمكن إجبار أحد على الايمان بفكرة أو التخلي عن الإيمان بها، فإن التعليم الديني يجب أن يكون مستمدا من هذه الحقيقة وقائما عليها.
يفترض أن التعليم الديني يعمل في اتجاه الأغراض والأهداف التالية:
1-المعرفة الدينية المفترض أن يتلقاها الطلبة، وهنا سيكون ثمة إشكاليات عدة ومعقدة متصلة بالمحتوى المعرفي والتعددية المذهبية والفكرية في تناول النص الديني وتطبيقه، والمرحلة العمرية التي ينبغي أن يتلقى فيها الطالب المعرفة العلمية، وهدف وطبيعة هذه المعرفة على النحو المستمد من حرية الاعتقاد والمسؤولية عنه، ودور الدولة والمجتمع والأسرة في ذلك.
2-التعليم المهني في المجال الديني، إعداد المعلمين والمشرفين والأئمة والدعاة..
3-الفقه والتشريع والقضاء والأحكام الدينية باعتبارها مصدرًا للتشريع والتطبيقات المؤسسية المستمدة من الشريعة.
4-التطبيقات المؤسسية الاقتصادية والمالية المستمدة من الشريعة الإسلامية مثل البنوك والتأمين
5-العلوم الدينية بما هي علوم إنسانية واجتماعية في مجالات الاجتماع والثقافة والأنثروبولوجيا والتاريخ والفلسفة واللغات.
يقوم التعليم الديني اليوم على المدارس والجامعات الحكومية وتشارك في ذلك المدارس والجامعات الخاصة بإشراف وتنسيق المؤسسات الرسمية.
وفي الأردن –وهو مثال يمكن تعميمه على معظم الدول العربية والإسلامية- تتولى وزارة التربية والتعليم تعليم الدين في المدارس منذ الصف الأول وحتى نهاية المرحلة الثانوية، وتضع المناهج التعليمية التي تدرس في مدراسها أو في المدارس الخاصة التي تعمل حسب القانون بإشرافها ومتابعتها، وتتولى الجامعات الرسمية من خلال كليات الشريعة واقسام الدراسات الإسلامية تدريس العلوم الدينية للطلبة الجامعيين في جميع المستويات وتأهيل الأساتذة والمعلمين والدعاة والقضاة والمحامين والمفتين والدعاة، وتتولى وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية إدارة وتنظيم المساجد والشعائر الدينية والوعظ والإرشاد والامامة في المساجد والمراكز الدينية، وتتولى دائرة الإفتاء العام تنظيم وتقديم الفتاوى للأفراد والمؤسسات، وهي مؤسسة رسمية منوط بها الفتوى ولا يجوز حسب القانون لأي شخص أو جهة التصدي لإصدار الفتاوى الشرعية في القضايا العامة، ويحظر على أي شخص أو جهة الطعن والتشكيك في الفتاوى الصادرة عنها، وتؤكد قوانين كثير من الوزرات والمؤسسات على موقع الدين في الحياة العامة ومرجعيته وواجبات الدولة تجاه الدين.
لقد رعت الدولة الحديثة عمليات الصياغة المعاصرة للإسلام التي ابتدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر، وقدمت منظومة واسعة من التطبيقات والدراسات والمؤسسات والجماعات والأنظمة الجديدة، وأعادت تقديم الإسلام على نحو استوعب التحولات الاقتصادية والسياسية والعلمية التي سادت في الغرب وشملت عالم الإسلام، وهي جهود شارك فيها علماء ومفكرون وأساتذة وباحثون وطلبة دراسات عليا بالتحالف مع أنظمة سياسية ومؤسسات علمية وتعليمية واقتصادية، وأنتجت في محصلتها منظومة هائلة من الدراسات والمناهج والبرامج والمؤسسات والتطبيقات في التعليم والإعلام والبنوك.
وقد استطاعت الدولة العربية الحديثة مأسسة التعليم الديني وتطويره ضمن تطوير المؤسسات التعليمية الحديثة، بعدما كان التعليم بعامة نادرا، ويغلب على القطاع محدودية الموارد والمعرفة. وقدمت المؤسسات التعليمية عددا كبيرا من المعلمين والقضاة والأساتذة والعاملين في الشأن الديني من المتعلمين وفي ظروف معيشية تشابه موظفي الدولة، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على مواردهم الذاتية أو معونات الأهالي والمجتمعات.
وساهمت المؤسسات التعليمية في تطوير المعرفة والإنتاج الفكري والبحوث والكتب والدراسات والمناهج في المجال الديني وفق أسس عمل المؤسسات التعليمية والبحثية الحديثة.
ولكنها حالة تضمنت تحديات كبرى وخطيرة يمكن ملاحظتها بوضوح في التطرف الديني والحروب الصراعات الدينية، وفي أعمال العنف المنتسبة إلى الدين في العالم العربي، وبالنظر إلى المآلات التي وصلت إليها هذه العمليات فقد دخلت وأدخلت العالم الإسلامي في متوالية معقدة من الصراعات والكراهية والتطرف والعنف المنتسب إلى الدين.
ولم يعد ممكناً النظر إلى مواجهة هذه الحالة في عالم العرب والمسلمين اليوم في معزل عن المنظومة الدينية والتعليمية المنشئة لها برغم ما في ذلك من مغامرة؛ ذلك أن الأنظمة السياسية والجماعات والمجتمعات والشركات تصير حتماً في مواجهة مع الذات، ولكن مواجهة التطرف لن تكون فاعلة أو ناجحة من غير هذه المواجهة، ولم يعد أمامنا حكومات ومجتمعات وأفراد سوى أن نكف عما نحسبه مكافحة للتطرف مما لا يعدو كونه هجاء المتطرفين.
يمكن إجمال التحديات الناشئة عن الدور الرسمي في التعليم الديني والحالة الدينية الناشئة عنها والمصاحبة لها فيما يلي:
1-صعوبة إن لم يكن استحالة استيعاب التعددية المذهبية والاتجاهات الفردية والاجتماعية المختلفة في فهم الدين وتطبيقه
2-انحياز المؤسسة التعليمية ونشوء حالات واسعة من الإكراه الديني والتعصب والانقسام
3-توظيف الدين والتعليم الديني لتكريس السلطة وهيمنتها وإضعاف المجتمعات والمعارضة
4-فائض «ديني» لكنه ليس ديناً
5-مأزق العلاقة بين الدين والدولة، وما ينشأ عن عدم حيادية الدولة تجاه الدين من أزمات دستورية واجتماعية ودينية أيضا.
6-نشوء الأصوليات الدينية والجماعات الدينية السياسية والمتطرفة برعاية رسمية.
7-نشوء ملاذات فكرية وقانونية ومؤسسية آمنة للتطرف والكراهية.
8-أسلمة واسعة لشؤون ومجالات وتطبيقات كثيرة لم يطلبها الدين وأنشأت بطبيعة الحال وعيا ذاتيا بعدم إسلامية الدول والمجتمعات.
تظهر الخطط الدراسية للجامعات والكليات الرسمية مقررات دراسية من قبيل الاقتصاد الإسلامي، والمصارف الإسلامية، والحكم الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والنظام الجنائي الإسلامي، ونظام العقوبات الإسلامي، ونظام العلاقات الدولية في الإسلام، ونظام الأسرة والمجتمع في الإسلام. وأما تصفّح عناوين رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات العربية، فيؤشر إلى الجهد الأكاديمي المكثف الذي بذلته الجامعات الرسمية في «الأسلمة» المعتسفة والمبالغ فيها للعلوم والتطبيقات العامة واليومية، بل الاجتهاد العقلي والفكري في تحويل مفاهيم الجماعات الدينية المتطرفة وأفكارها إلى برامج وأفكار متماسكة وبحوث علمية مؤصلة في الفقه والشريعة. لكن، ما الخطر في ذلك؟
الخطورة في هذه السياسات الرسمية، أنها حوّلت أفكاراً ومبادرات إنسانية تستلهم الدين إلى دين، وتقدّم في المدارس والجامعات الرسمية على أنها دين نزل من السماء وليست اجتهاداً إنسانياً عقلياً بما يقتضي ذلك بالضرورة من خطأ وصواب وهوى ومصلحة وقصور للتوفيق بين الإسلام والعصر، ثم يبدو ما عداها من مفاهيم وتطبيقات ليس إسلاماً، وهكذا فإننا نقرّ، حكوماتٍ ومجتمعاتٍ، بأن ما لدينا من مؤسسات وتطبيقات عصرية متبعة يتناقض مع الإسلام ومع مزاعم الحكومات بأنها إسلامية! وأنه لا معنى ولا جدوى من وجود مجالس تشريعية طالما أن هناك تطبيقاً إسلامياً في كل شؤون الحياة يقدم ويعدّ في المساجد وكليات الشريعة والحوزات الدينية، ثم تصير المؤسسة الدينية هي الدين، لأنها هي التي تخبرنا بما أمر الله أن نفعله وما لا نفعله، وتملك سلطة في النقض والإبرام لا تعلو عليها سلطة أخرى سياسية أو تشريعية.
وفي ذلك، تبدو الحكومات والمجتمعات مناقضة لنفسها، ليست إسلامية وفاقدة شرعيتها الدينية على رغم أنها (الحكومات) هي التي رعت وأنشأت هذا الفهم للدين وتدرسه في مدارسها وجامعاتها، وليست أيضاً علمانية تتخذ موقفاً محايداً من الدين، وهذا أسوأ ما أوقعت فيه نفسها الحكومات والمجتمعات العربية، فهي تطبق الدين أكثر مما يريد الله، وتنشئ في الوقت نفسه إدراكاً ووعياً لذاتها ترى فيه نفسها بعيدة من الدين، وأن الجماعات الدينية هي التي تملك الشرعية الدينية، على رغم أنها فكرة حكومية تبلورت عملياً وتنظيرياً في مؤسسات الدولة ومناهجها التعليمية.
المسألة تنظيمية وليست دينية، ولا بأس في الجدل الذي يثيره مشتغلون في الشأن الديني والعام حول دور مؤسسات الدولة الدينية ووجودها. لكن تحويل هذا الجدل إلى صراع مزعوم بين الإسلام وما ليس إسلاماً، هو اعتقاد أو توهّم بأن مصالح ومواقف هي الدين، وهذا أسوأ ما يظنه مشتغلون في الشأن العام: الخلط بين الإسلام وبين المؤسسات والوزارات. فكل ما لدى المسلمين من تراث ديني وفقهي لم يكن تابعاً لسلطة سياسية.
نقلا عن عمون