سامح فايز
صحفي مصري
يستمر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين -أسسه القطري من أصل مصري يوسف القرضاوي ـ في ممارسة دور يخالف تمامًا الميثاق الذي أطلقته الجمعية العمومية الأولى للاتحاد والمقامة في دبلن عاصمة أيرلندا عام 2004؛ بعدم التدخل في شؤون الدول السياسية أو فرض تصورات الاتحاد على حكومات الدول العربية، آخرها فتوى أطلقها الاتحاد قبل أسابيع توجب على الشعوب العربية أن تخرج بالسلاح ضد حكوماتهم، إن رفضت تلك الحكومات الجهاد في فلسطين، وحدد الاتحاد في مقدمة تلك الدول: مصر، والأردن، وليبيا. ولم تمضِ أيام على الفتوى حتى سقطت عناصر الجماعة في الأردن وهي تحاول نشر الفوضى في البلاد بتصنيع أسلحة محلية الصنع ومحاولة استخدامها ضد الدولة الأردنية.
ظل الاتحاد ملتزمًا بميثاقه منذ التأسيس، بيد أنّ تحولًا جذريًا حدث عام 2013 على خلفية ثورة 30 حزيران (يونيو) في القاهرة قلب الأوضاع رأسًا على عقب، تبدل على إثرها الأمين العام للاتحاد من المحامي الإسلامي محمد سليم العوا أحد أبرز المصريين المتصدرين للفكر المقاصدي في الفقه الإسلامي، وانتخب بديلًا عنه علي القرة داغي أمينًا عامًا.
والقرة داغي يشغل أيضًا منصب عضو مجلس أمناء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تأسس عام 1997 في أيرلندا بطلب من اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا لسان حال التنظيم الدولي للإخوان في الغرب.
وشهدت مرحلة القرة داغي تدخلًا سافرًا في الشؤون السياسية للدول العربية، وصلت إلى الدرجة التي أصدر فيها الاتحاد بيانًا عام 2013 يطالب فيها الجيش المصري بالرجوع إلى ثكناته وعدم الانصياع إلى رغبات الشارع الرافضة لحكم الإخوان.
يوسف القرضاوي وحلم فاتيكان للمسلمين
لا نستطيع تقديم قراءة تحليلية حول الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين دون النظر إلى السياقات والظروف التي أحاطت بتأسيسه عام 2004، الاتحاد الذي تأسس بعد أعوام من الحلم الذي راود مؤسسه يوسف القرضاوي، الأب الروحي لجماعة الإخوان المسلمين؛ يقول القرضاوي عن ذلك في الجمعية العمومية التأسيسية للاتحاد عام 2004 المنعقدة في دبلن عاصمة أيرلندا: إنّ حلم الاتحاد راوده منذ الثمانينيات، وإنّه تحدث بذلك الحلم صراحة أول التسعينيات، ولكن تحت مُسمّى اتحاد الكتّاب والمفكرين المسلمين، وقد تأخر تنفيذه بسبب الأوضاع التي اشتعلت في الجزائر. ثم أصبح الحلم ضرورة مهمة تجمع شمل علماء المسلمين في مؤسسة شعبية لا ترضخ إلى سلطان الحكومات العربية، وقد وصف القرضاوي العلماء المنتسبين إلى المؤسسات التي تعمل داخل تلك الدول بأنّهم علماء السلطان.
أوضح القرضاوي في الجمعية العمومية الأولى أنّ الأوضاع في العراق كانت من الأسباب التي عجلت بتأسيس الاتحاد؛ بعد أن لاح في الأفق تفرق الأمة والشعوب العربية.
وأنّه ليس للإفتاء الإسلامي منصة تتصدر له مثل الفاتيكان، وأنّه قد بات من الضروري تأسيس اتحاد للعلماء يراعي حالة التحديث التي جرفت مكتسبات علماء الأمة الإسلامية في ظل عصر تحكمه التكنولوجيا، أو كما وصفه القرضاوي أنّه عصر يحكمه التحديث.
هذا ما أورده يوسف القرضاوي، وما يردده أمناء الاتحاد منذ الأمين الأول للاتحاد المحامي محمد سليم العوا وصولًا إلى الأمين الحالي علي الصلابي؛ أنّ الاتحاد هيئة شعبية تجمع علماء الأمة الإسلامية دون تفرقة في صف نجد فيه السنّي والشيعي والإباضي يقفون في جانب واحد من أجل إعادة القيمة التي تستحقها الفتوى في ظل عصر تفتتت فيه أواصر الأمة الإسلامية. لكنّ المتابع لتحركات الاتحاد وتحولاته يجد أنّه خلف ذلك الحديث هناك كلام آخر!
علاقة الاتحاد بالمجلس الأوروبي للافتاء
تأسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكان هناك بالفعل اتحادات أخرى تقوم بالمهمة نفسها، مثل “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث”، وكان من بين أعضاء مجلس أمنائه يوسف القرضاوي مؤسس الاتحاد العالمي، وأيضًا علي القرة داغي الأمين العام السابق للاتحاد، والرئيس الحالي له، بل إنّ (20) عضوًا في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هم أعضاء بالفعل في الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مثل: عبد المجيد النجار، وجاسر عودة، وراشد الغنوشي، وسالم الشيخي، وسلمان فهد العودة، وعصام البشير… إلخ.
الأوضاع في العراق كانت من الأسباب التي عجلت بتأسيس الاتحاد عام 2004.
في التوقيت نفسه أيضًا كان هناك “مجمع الفقه الدولي” الذي يتبع “منظمة التعاون الإسلامي”، و”المجمع الفقهي” الذي يتبع “رابطة العالم الإسلامي”، وهي رابطة شعبية غير رسمية. بيد أنّ يوسف القرضاوي مؤسس الاتحاد أراد أن يؤسس اتحادًا بعيد الصلة عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تأسس تلبية لدعوة من قبل “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، علمًا بأنّ أوراق تأسيس الاتحاد كانت في دبلن عاصمة أيرلندا، وهي مقر تأسيس المجلس الأوروبي نفسه؛ بعد أن عجز القائمون على الاتحاد عن إيجاد دولة عربية تسمح بوجود مقر لهم، بحسب تصريحات أمناء الاتحاد المختلفين سواء أحمد الريسوني أو القرة داغي.
والرفض القطري أن تكون أرضها مقرًا للاتحاد في البداية ربما يكون عائدًا لرغبة الحكومة القطرية ألّا يحسب الاتحاد عليها أو على جماعة الإخوان.
لكنّ تلك الرغبة تغيرت في الجمعية العمومية الثالثة للاتحاد التي أقيمت في إسطنبول تموز (يوليو) عام 2010، بعد أن سمحت قطر أن تكون الدوحة مقرًا رسميًا للاتحاد إلى جوار مقر دبلن، وصدر القرار الحكومي بذلك في آذار (مارس) 2011.
تحوّلات الاتحاد تاريخيًا في (3) مراحل
نستطيع أن ننظر إلى رحلة الاتحاد منذ التأسيس حتى الآن من خلال (3) مراحل:
الأولى منذ عام 2004 حتى الجمعية العمومية الثالثة 2010، وتميزت تلك المرحلة بالهدوء والسعي إلى كسب اعتراف العلماء في الدول العربية والإسلامية دون تخوفات من توجهات أعضاء الاتحاد الذين ينضوي أغلبهم تحت لواء الأفرع المختلفة لجماعة الإخوان في دول العالم الإسلامي.
ومن مؤشرات عملية الاحتواء والهدوء اختيار المحامي محمد سليم العوا أول أمين عام للاتحاد، وما عرف عنه من تصديه لعلوم مقاصد الشريعة التي تتعامل بمرونة مع تغيرات العصر والحداثة التي تقف عائقًا أمام تجديد الفتوى التي ترزخ في أغلب الدول الإسلامية تحت جمود التراث الديني؛ وهي المسألة التي يعالجها علم مقاصد الشريعة.
المرحلة الثانية: تبدأ عام 2011 حتى عام 2020، وهي مرحلة التمكين والمواجهة مع الحكومات العربية تماهيًا مع ما عرف بثورات الربيع العربي، وفي تلك المرحلة استقال محمد سليم العوا وحلّ مكانه رفيق القرضاوي في المجلس الأوروبي علي القرة داغي.
المرحلة الثالثة: تبدأ عام 2020 مع تخلي يوسف القرضاوي عن رئاسته للاتحاد بعد (16) عامًا من العمل بصفة رئيس له. وهي مرحلة تميزت بالميل إلى المصالحة ولمّ الشمل، وهو امتداد لعنوان المؤتمر العام للاتحاد الذي عقد على هامش الجمعية العمومية الخامسة عام 2018 وكان عنوانه “الإصلاح والمصالحة”.
قد يظهر أنّ تلك المراحل والتحولات جاءت في إطار طبيعي نظرًا إلى تطور العمل داخل الاتحاد، لكنّ قراءة التحولات ووضعها في مسارها الطبيعي ضمن منظومة عمل المراكز الدعوية والفقهية التابعة للتنظيم الدولي للإخوان سيغير النظرة إليها؛ فالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يعتمد علم مقاصد الشريعة سبيلًا ومحورًا تدور من خلاله الفتاوى الصادرة عنه، وهو ما يفسر وجود أعضاء داخل مجلس الأمناء من مشارب عقدية وفقهية مختلفة، بين الشيعة والسنّة والإباضية، علماء من الأشاعرة والماتريدية والصوفية.
ويُعرّف المفكر العراقي طه جابر علواني – أحد مؤسسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي – علم مقاصد الشريعة بأنّه: “الحِكم والغايات التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها من خلال الأحكام الشرعية”.
وتنقسم المقاصد إلى قسمين:
الأوّل مقاصد عامة، وهي تحقيق مصالح الناس جميعًا في الدنيا والآخرة، ويتحقق هذا من خلال أحكام الشريعة الإسلامية كلها، فإنّها لو طبقت التطبيق الكامل الذي أراده الله، لتحقق للناس مصالحهم كلها ولم يفتهم من ذلك شيء في الدنيا والآخرة.
الثاني: مقاصد خاصة، وهو تحقيق مصالح خاصة بمجال معيّن من مجالات الحياة، كالجانب الاقتصادي أو الأسري أو السياسي… إلخ، وذلك عن طريق الأحكام التفصيلية التي شرعت لكل مجال على حدة”.
العلوم المقاصدية بوابة الإخوان للغرب
الحديث عن مقاصد الشريعة أو العلم المقاصدي، وإن كان له جذور تاريخية تعود إلى القرن الرابع الهجري، إلا أنّه ظهر بقوة على السطح كعلم منفصل عن علم أصول الفقه مع المؤسسات الدعوية للتنظيم الدولي للإخوان في الغرب، في المقدمة منها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي نشر ضمن منشورات المعهد، وفي العدد الأول من سلسلة الرسائل الجماعية، رسالة دكتوراه بعنوان: “نظرية المقاصد عن الإمام الشاطبي” لصاحبها المغربي أحمد الريسوني، وهو أيضًا الأمين العام الثالث للاتحاد؛ فقد تأسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي على محورين أساسيين؛ الأول: إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين وإعادة ترتيب وتشكيل أولويات العقل المسلم. الثاني: إعادة بناء النسق الثقافي الإسلامي وتقديم معرفة إنسانية واجتماعية معاصرة من منظور إسلامي.
ومن أهم وسائل تحقيق الهدف الأول نقل العقل المسلم من الانشغال بالجزئيات إلى الكليّات، ومن الاستغراق التام بالوسائل إلى العمل معها على تحقيق المقاصد والغايات.
صدر كتاب الريسوني عام 1995، وفي العام نفسه صدرت رسالة دكتوراه بعنوان “نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور” للمؤلف إسماعيل الحسني، وابن عاشور عالم تونسي ومن أبرز من تناولوا ذلك العلم، هو والإمام محمد عبده.
وفي عام 1997 تأسس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
وجميع ذلك أهداف مرحلية وتدريجية سعى من خلالها التنظيم الدولي للإخوان إلى تقديم نفسه للغرب بديلًا وسطيًا بعد صعود الإرهاب العالمي ووصوله إلى قلب أمريكا نفسها في تفجير برج التجارة العالمي عام 1993 والمتهم فيه عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية في مصر. ثم أصبح تأسيس اتحاد عالمي لعلماء المسلمين غير مرتبط بشكل صريح بالتنظيم الدولي للإخوان ضرورة ملحة عقب أحداث أيلول (سبتمبر) 2011 وتفجير برج التجارة العالمي بفعل تنظيم القاعدة.
وفي تلك المرحلة انتبه الغرب إلى ضرورة توجيه سلاح المتطرفين إلى دولهم بدلًا من توجيهه إلى الأمريكان، وصدر في ذلك الوقت تقرير مؤسسة “راند” الذراع البحثية لوزارة الدفاع الأمريكية تحت عنوان “بناء شبكات الإسلاميين المعتدلين”.
بحسب التقرير على أمريكا أن تعيد تطبيق نظرية الاستخبارات المركزية في الحرب الثقافية الباردة مع الروس لكن على أرض جديدة، بعد أن أثبتت النظرية نجاحها بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتهدف نظرية “راند” إلى خلق حلفاء إسلاميين داخل الدول العربية تستطيع أمريكا أن تضع الحكم بين أيديهم شريطة أن تكون تلك المؤسسات الدينية خاضعة للسيطرة الأمريكية.
في تلك الفترة بدأ الحديث عن الشرق الأوسط الجديد، وظهر على السطح مصطلح الدعاة الجدد الذي صكّه الصحفي المصري وائل لطفي. وفي تلك الفترة أيضًا تأسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
المصدر : حفريات