قادري أحمد حيدر
إنها الأيديولوجية العنصرية في عمقها وفي بعدها الثقافي الاستعماري من يحرك ويشغل الآلة العسكرية الصهيونية القاتلة ضد
الفلسطينيين، منذ فجر العملية الفدائية الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023م، ومن قبل ذلك، في محاولة لطمس ما صنعته إرارة ثقافة المقاومة من تاريخ جديد، ما بعده ليس كما قبله، لا يشبهه شيء.
إن الثقافة التحررية القومية الديمقراطية تحديداُ هي آخر ما تبقى لنا من قلعة لمقاومة محاولة اخراجنا من التاريخ.
أسلحة بسيطة، صناعة يدوية على أيدي الشباب الفلسطينيين محمولة بإرادة فعل ثقافة الحرية هي من تؤكد اصرار الفلسطينيين على البقاء، وهي من تقاوم كل هذه الوحشية الصهيونية المدعومة بالأساطيل والبوارج الحربية الاستعمارية الأمريكية والأوروبية، التي ترفض حتى اللحظة ايقاف الحرب، بل وحتى من ادخال المساعدات الإنسانية، وتصمت عن هذا الخراب العظيم الذي يطال كل شيء في فلسطين : المستشفيات والمساجد، والكنائس، وسيارات الإسعاف، والألواح الشمسية، وأبار المياه، والمخابز، حتى مدارس “الأونروا”، لم تسلم من القصف الهمجي، بعد أن قتل أكثر من مائة من موظفي، هذه المنظمة الأممية، آخرها مدرسة الفاخورة التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء يوم السبت 17/11/2023م، قصف لا يتوقف بالطيران طال كل شيء في فلسطين بعد أن أخرجت أكثر من ثلثي مستشفيات غزة عن الخدمة الطبية والعلاجية. وصارت المسنشفيات عمليا محتلة، وتحت طائلة الحصار، بل وتدمير مقومات ومكونات كل المستشفيات في الأرض المحتلة، وصولاً إلى الاحتلال العسكري المباشر لمستشفى الشفاء الطبي، واخلائه من المرضى والجرحى بالقوة العسكرية، بما فيها المستشفيات الواقعة في الضفة الغربية، بمخالفة صريحة للقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني.
إن المنطق اللا تاريخي العنصري المعادي للحياة، في قراءة الواقع، والتاريخ هو ما ينفذ على الأرض الفلسطينية، تنفيذا للرؤية الأيديولوجية الاستعمارية، والمفاهيم الدينية التوراتية العنصرية، إضافة إلى ما كتبه وهندسه ايديولوجيا، المفكر الصهيوني المتطرف، “برنارد لويس” ، والتي تقدم بها إلى الكونجرس الأمريكي وتم الموافقة عليها في العام 1983م، بتفتيت وتفكيك المنطقة العربية إلى مذاهب وطوائف وقبائل وعشائر، واثنيات عرقية، تفكيك يجب أن يطال كل بلدان وشعوب المنطقة، وفي القلب من كل ذلك تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يرفضه ويقاومه الشعب الفلسطيني، بجميع أطيافه
ومكوناته.
هل سمعتم في تاريخ العالم الحقوقي والقانوني نصوصا تقول بأن من حق المحتل والمستعمر لأرض شعب آخر، الحق في أن يدافع عن نفسه، بقتل صاحب الأرض، المحتلة ارضه، بقوة السلاح ؟!
إن هذا المنطق الأيديولوجي الاستعماري هو ما تقول به وتمارسه أمريكا وأوروبا، باعطاء المحتل القاتل الصهيوني شرعية قتل الفلسطينين اصحاب الأرض، باسم حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه, وهو منطق يتناقض والقوانين الدولية؟!!.
والكارثة أن بعض الأنظمة العربية المتصهينة أو التي ترغب في استكمال السير على طريق التطبيع مثل السعودية، تتوافق بل وتؤيد الرؤية الصهيونية والاستعمارية في اعتبار حماس والمقاومة الفلسطينية تمثل حالة “داعشية”تحويل القاتل الصهيوني إلى ضحية، وحركة التحرر الوطني، في صورة “حركة حماس”, إلى إرهاب !!
إن ما يجري منذ ما بعد السابع من أكتوبر هي معاندة همجية لمحو ما صنعه يوم السابع من أكتوبر، من انتصار قلب معادلة السياسة، والعسكرة رأسا على عقب، متجاهلين أن السهم قد انطلق من القوس.
شعب فقير من المال، ومن تقنيات السلاح المدمر والفتاك، شعب لا يملك سوى التمنطق باحتزام سلاح الإرادة، والاصرار على البقاء في الأرض، والنهوض من بين الانقاض معلنا ميلاد حياة جديدة، إنها العنقاء الفلسطينية المعاصرة .. العين التي تقاوم المخرز .
إن السابع من أكتوبر ليس كما قبله ولن يكون ما بعده رغم الألم والمجازر والموت، والحزن سوى
عنوان لميلاد ثقافة وتاريخ جديدين .. مخاض صعب وقاس يصر على كتابة فعل مقاوم، يرفض العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر.
لم يعد في فلسطين المحتلة مكان آمن، يهربون من موت محتمل إلى موت محقق، حيث طائرات الكيان الصهيوني تطارد الأفراد والجماعات المشردة والنازحة وتصطادهم بصواريخها المحملة بأطنان من القذائف المدمرة للمباني الخراسانية والمذيبة للأجساد، إنه جحيم قتل الطائرات يترصد الفلسطينيين في منازلهم وفي الشوارع وفي مخيمات النزوح وفي كل مكان، حتى وهم في القبور، قذائف تنزل على المربعات السكنية فتسقطها على رؤوس ساكنيها بعد أن محيت مئات المربعات السكنية من خارطة الوجود، ومئات العائلات بكاملها خرجت من السجل المدني، حتى أن بعض الخبراء العسكريين يقولون أن ما أطلق على غزة من صواريخ وقذائف يعادل أكثر من
قنبلة نووية، ولا يخفي وزير التراث الصهيوني من المطالبة العلنية برمى قنبلة نووية على غزة ، وهو
عموماً خطاب صار سائدا لدى قطاع واسع من رموز القيادة الصهيونية، فالنائبة البرلمانية الصهيونية
تالي جوتليف طالبت باستخدام النووي، ووقعت ورقة تطالب بضرب المستشفيات، ولا تتوقف اللغة ،والثقافة، والأيديولوجية العنصرية الغربية، من الحديث عن أن من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها!!
لقد تفوقت الصهيونية والاستعمار الغربي الجديد على كل المجرمين النازيين في التاريخ.
هي لحظة يلتقي ويتوحد فيها الخطاب الأيديولوجي والثقافي الصهيوني العنصري، بالغربي الاستعماري وهو ما يفسر ويشرح تلك الوحدة الأندماجية في الفكر والممارسة، فيما بينهما.
لا تتعجبوا من شعب الجبارين كما وصفهم الرئيس الشهيد ياسر عرفات، من أنهم يهندسون من الخراب العظيم، ومن التراجيديا في عمقها المأسوي ثقافة فرح وانتصار، ويصرون على المقاومة، واحتضان المقاومة حتى الانتصار، أو الانتصار،( نكون أو لا نكون), فمن كل ذلك القتل والألم تكون كل هذه الصلابة، وجسارة الفعل .. تكون، والفلسطيني لا يحصل على العلاج ولا على الماء والغذاء، والوقود، والدواء، وبعد أن صار بدون مأوى في العراء وبدون أي سند عربي، بعد فضيحة قمة الرياض المتصهينة، مع صمت دولي يكشف عمق التواطؤ مع اللحظة الصهيونية الاستعمارية.
لقد عجز وفشل الكيان الصهيوني بكل الدعم الأمريكي والأوروبي في صناعة نصر في غزة، وفي الضفة الغربية، فذهب الكيان الصهيوني، مسعوراً ليبحث عن نصره في حرب المستشفيات، لأن المعركة البرية القتالية وجه لوجه تقول، وتؤكد فشله، مهما كانت النتائج العسكرية بعد ذلك، لأنه سقط أمام العالم كله سياسياً واخلاقياً وإنسانياً ، بعد أن صارت الاحتجاجات الداعمة للمقاومة بالآلاف في الشوارع الأوروبية، وفي الولايات المتحدة، وفي أمريكا اللاتينية، وافريقيا، وآسيا .
إنها “الكوميدية السحرية الساخرة”, تكتب فصول روايتها بالدم واللحم الفلسطيني الحي، تراجيديا يكتبها ويرويها ويصنعها الأطفال والنساء الذين يعدوننا بان ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله.
إن كل جرائم الإرهاب الصهيوني العنصري التي تفقأ العين تتحول إلى أيديولوجية نازية لتكريس
واستدامه حضور وفعل دولة التمييز العنصري (الأبارتهيد) هي باختصار ثقافة الاستعمار الجديد، في
مواجهة ثقافة الحرية، التي تتوافق مع جميع مواثيق حقوق الإنسان والعهود الدولية، وشرعة الأمم المتحدة، التي يجري قمعها ومصادرتها من حياة المجتمع الدولي، ولم يتبق منفرداً ومغرداً خارج السرب سوى غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة الذي قال كلمته في مواجهة الهمجية الممنهجة ،معلنا ضمنا الأقرار بحق المقاومة، وحق ثقافة المقاومة في الحياة والوجود، قال ما لم يجرؤ رئيس عربي على قوله، وهم من يشاركون – أقصد الحكام العرب – بصمتهم وخذلانهم في استمرار حرب الإبادة والعقاب الجماعي ضد شعب تعطيه كل القوانين
الوضعية والشرائع السماوية الحق بالمقاومة، ولا تقرها العائلة السعودية، واعوانها، التي صارت ترى من خلال قيادتها الجديدة،” الشابة”, في المقاومة الفلسطينية إرهابا، ولذلك كيفت مع اعوانها لخروج بيان القمة العربية الإسلامية، بتلك الصورة الداعمة لاستمرار الحرب، وبيدها عشرات الأوراق بما فيها النفط والغاز، للإيقاف الفوري للحرب.
إن المطلوب اليوم والآن من النظام السياسي العربي، كحسن نية ، أو اعلان موقف ولو بالكلام؛ من مصر والأردن والسعودية والعراق وسوريا، التحرك العاجل لرفع قضايا امام محكمة الجنايات الدولية، بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الكيان الصهيوني، وهذا أضعف الإيمان، من خلال العمل بالكلام / القول بعد أن تعذر الفعل الداعم والمشارك في فعل المقاومة، هل هذا كثير على الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض للإبادة الجماعية والتطهير العرقي ، يتحول معها الاحتلال إلى حالة إحلالية بعد فرض التهجير القسري للسكان في غزة والضفة؟!
إن ” الحياة مسرح للفعل والقول”, حسب تعبير” الشبزي”, وحكامنا العرب،صاروا خارج الفعل والقول، بما يعني خارج الحياة الإنسانية، أي أنهم يقودوننا ليس إلى الهزيمة، بل وإلى مزيد من التخلف، تمهيدا لإخرجنا من العصر، ومن التاريخ .
هذه هي الحكاية باختصار ونقطة على السطر.