مروان العياصرة
كاتب أردني
المسافة بين الطاعة والصمت هي المسافة صفر تماماً، فالطاعة تعني الصمت في كثير من الأحيان والمواقف وأمام كثير من الأفكار المتسلطة، وفي الإيديولوجيات الصلبة غالباً تريد أن تقول لأتباعها اصمتوا إزاء رأيها وقرارها وأوامرها.
وعلى غرار ما صدحت به ذات يوم (مدام رولان) أمام المقصلة: “أيتها الحرية، كم من الجرائم يتم ارتكابها باسمك؟”، على غرارها، وأمام مقصلة الآراء والأفكار يمكن لأيّ أحد اليوم أن يصدح بعبارة مماثلة جداً: “أيّها الصمت، أيتها الطاعة العمياء، كم من الأخطاء تحدث باسمك، وكم من جريمة تحدث كل يوم تحت شعارك؟”، فالصمت غالباً هو ما يسمح للشرور أن تحدث وتطمئن، والطاعة العمياء بما هي أسوأ ما في الصمت من معنى، هي ما تسمح للأفكار المتسلطة والمستبدة أن تنمو، وأن تتسلل بهدوء إلى كياناتنا.
ليس دائماً -كما يقال- خلف الصمت روح كرهت الحديث، بل غالباً في عصر الإيديولوجيات القاسية خلف الصمت أرواح خائفة ومرتجفة، وليس دائماً خلف الطاعة العمياء نهي عن مشاكلة الشهوات بالجهل، كما في رسالة بطرس الرسول الأولى؛ “أولاد الطاعة، لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم”، ولكن غالباً اليوم خلف الطاعة العمياء أرواح مسكونة بالتبعية المطلقة وأنفاس مصادرة وأفكار مغلوبة، وخلفها أيضاً مشاكلة الصمت الفاسد والإكراه الثقيل والتبعية الرديئة.
ولأنّ الأديان سمّت الالتزام والإذعان من أجل الرضا والغفران “طاعة”، فقد وجد رجال الأديان، الذين أسسوا كيانات وإيديولوجيات دينية، في هذه الفكرة المقدّسة حالة متقدمة من التأثير وكسب التأييد وضمانة قصوى للإذعان باسم الدين لأغراض وأهداف وخيارات غير دينية، وقد وضع الإخوان المسلمون الطاعة في أعلى سُلّم أركان البيعة الـ (10)، وهي الأركان المؤسسة للبنية الداخلية الصلبة لهذا الكيان الذي أنشأ على مدار عقود طويلة أجيالاً كثيرة على فكرة الطاعة التي لا تقبل النقد ولا الرد، وتحت ركن الفهم المعلب، استعارت عقولهم باسم الطاعة. وبالقدر الذي مارس فيه الأتباع الطاعة، مارست عليهم الجماعة الإكراه بالقدر نفسه، دون أن تشعر هذه المجاميع من الأتباع أنّ هذا النوع من الطاعة هو ثمن يتم دفعه مقابل الشعور الوجداني الذي يتم تشكيله في وجدانهم بأنّ هذا هو الحق وهذه هي الحقيقة، وغير ذلك زيف وخداع وجهل وفساد.
وقد أدرك خبراء التربية الإخوانية، بدءاً من المؤسس حسن البنا، أنّ الطاعة من الصعب عليهم أن يحققوها في نفوس أتباعهم ما لم يوفروا لهم قاعدة مشتركة وقوية من الفهم، ولم يعيدوا إنتاج أفهامهم عن العمل الديني، بل ألغوا لديهم كل فهم وألزموهم بفهم واحد أسسوا له على نحو لا يقبل القسمة إلا على واحد، وهو فهم الجماعة وليس فهم الأفراد والأتباع. وفي سبيل هذا الفهم المتحكم، وعلى قاعدة الطاعة المضمونة، مررت الجماعة كل قراراتها وخياراتها وتصوراتها وبنت هيكلها المؤسسي الضخم دون أن تخشى تفلت أتباعها من عقالها، لأنّها باختصار استعارت منهم عقولهم، ووزعت عليهم عقلاً واحداً مشتركاً، هو عقل الجماعة.
كثيرون من القواعد الإخوانية، من الأفراد في الأرياف والمدن وبلاد اللجوء، وصلوا إلى قناعات مختلفة ومناقضة لقناعات الجماعة، لكنّ قسماً كبيراً منهم يعتبر تسرب مثل هذه القناعات وساوس شيطانية، ينفضها عن عقله وإدراكه ووعيه تحت ذريعة الطاعة وتحت سلطة العقل الجمعي، وما زلت إلى اليوم أسمع من كثير من الإخوان المسلمين قصصاً وروايات عن مواقف وأحداث وأفكار وتوجهات كان لهم فيها رأي مختلف، لكنّهم التزموا رأي الجماعة، وألزموا أنفسهم الدفاع عن عقلها، وحين نتساءل كيف بالإمكان الدفاع عن رأي وموقف لا أراه رأياً صواباً ولا أؤمن به، تستطيع أن تدرك قوة سطوة فعل الطاعة، وإن كانت الطاعة في سياق الدين قربة إلى الله، فهي في سياق الجماعة قربة إلى خليفة الله. صحيح أنّه كان يتم اتخاذ قرارات بطريقة التصويت داخل مكاتب القيادات الإخوانية، وهذا ملزم للجميع، لكنّ فكرة الطاعة أوسع من ذلك، وما سكتت عنه الجماعة على الأتباع أن تسكت عنه، وما تراه عليهم أن يروه، حتى لو تعلق الأمر برأي الأتباع بدولتهم وتاريخ دولتهم وشخصياتها، وحتى لو تعلق الأمر بفكرة وطنيتهم وانتمائهم الوطني، باسم الطاعة كان الانتماء لعقل الجماعة أكبر من الانتماء للوطن.
كانت أسر الإخوان وكتائبهم تضج بالحوارات، لكنّها تنتهي وتذوب في اللحظة الحاسمة بقول أحدهم: علينا أن نلتزم رأي إخواننا فهم الأقدر على الفهم والأقرب إلى الحقائق، وهم لم يروا ذلك إلا لأنّهم رأوا فيه خيراً لنا وصواباً لجماعتنا وحفظاً لمسيرتها. هذه هي الحالة الوجدانية التي جعلت الجماعة صلبة حتى عاشت (100) عام، وحين اكتشف الكثيرون أنّ كل ما كان في الجماعة هو مجرد اجتهادات في السياسة والاجتماع، أدركوا أنّ المسألة ليست ديناً، ولا عقيدة، بل وجهات نظر، وأنّهم باعوا وجهات نظرهم بلا مقابل، وتخلوا عن أفكارهم وأعاروا عقولهم لعقل جمعي استغل ذلك ووظفه، لكن شيئاً فشيئاً اتضح للكثيرين أنّ كل ما كان يحدث، كان شكلاً من أشكال حيازة السلطة لدى القيادات، والتشارك مع الدولة فيها، وهذا مقبول وطبيعي لو أنّه كان واضحاً دون مواربة، وحقيقياً دون تزييف، وجليّاً دون تقية سياسية.
كان المؤسس حسن البنا يقول لأتباعه: إننا لسنا دراويش، لكنّ عقل الجماعة مارس على الأتباع كل أشكال الدروشة، وتعامل معهم وصنع منهم في سياق أفكار الطاعة والتجرد دراويش جيّدين.
نقلاً عن حفريات