حكيم مرزوقي
إذا دققنا النظر في ما ينتجه أولئك المبدعون الذين ينسبون أنفسهم إلى النضال ويتبنون قضايا مختلفة وخاصة من وجهات نظر أيديولوجية، سنجد أنه منحصر في دائرة ضيقة تدعي الالتزام بالقضايا الكبرى، وغالبا ما تكون أقل مستوى من غيرها، إذ يخسر هؤلاء الكثير من تركيزهم وجهودهم في ما هو خارج الإبداع.
الذين لا يخوضون الحروب يهتمون بهوامش المعارك، والذين لا يصارعون الأمواج يكتفون بالحديث عنها وهم يستريحون على الشواطئ.. كذلك يفعل المتصيدون في المياه العكرة على الصفحات الأدبية والفنية، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي في أيامنا.
سهلة ومجانية هي الشعارات الثورية الجوفاء التي يطلقها أصحابها من عديمي الموهبة ضد المبدعين حين يحسدونهم على مواهبهم فيعمدون إلى توصيفات واتهامات بعيدة عن المجال الذي يخوضونه.
النضالية الفارغة
يمضي الوقت وبعض المبدعين مازال يجتر الشعارات الثورية المكررة دون وعي ويغض النظر عن الجوهر الإبداعي
في هذا الإطار، تزخر الساحة الفنية والأدبية في العالم العربي بمعارك جانبية مفترضة، ولا دخل لها بالشأن الإبداعي.
ولأن المسألة الفلسطينية هي قضية القرن، فإن التهافت حولها قد أدى إلى المزيد من الانقسامات السياسية، وتعداها ليطال المعارك الثقافية ضمن اصطفافات واستقطابات بدأت من خمسينات القرن الماضي، مع بدايات ما يعرف بالالتزام الأدبي والفني.
استمر الأمر على شكل معارك سياسية اتخذت من المبدعين متاريس وبيادق قتالية لتأليب شق ضد آخر، فكثر الحديث عن “مواقف نضالية” ضد أخرى “انهزامية ورجعية وتطبيعية” مع “عدو الأمة”.
انساقت الجماهير العريضة نحو هذا التقسيم وضيعت البوصلة الذوقية في اتجاه التقييم الواهم والتفريق بين مبدع تقدمي وآخر غير تقدمي.
بعض أشباه الكتاب والفنانين استحبوا هذه الموجة، وركبوها للتغطية على ضعف مواهبهم، وجنوا من خلالها مالا وشهرة لمجرد أنهم تبنوا تلك الشعارات وداعبوا تلك المشاعر، بينما دفنت مواهب حقيقية وتم إهمالها أو نسيانها لأنها أخلصت للإبداع وحده.
لا يزال هذا الوهم مسيطرا في عالمنا العربي، منذ أن اضطرت أم كلثوم أن تعني مع عبدالوهاب “أعطني الآن بندقية”، لكن الناس في يومنا هذا، لم يعودوا يطربون إلا للروائع.. وسقطت بالتقادم كل الثورجيات الجوفاء.
ليس لدى السطحيين وعديمي الذائقة ما يتبجحون به اليوم، سوى النضالية والتقدمية وهلم جرا من التشدق وتعبئة الفراغ، وتلك ـ لعمري ـ آفة تصيب كل أمة غضب الله عليها وانتقم منها التاريخ.
كانت المعركة الأدبية في تسعينات القرن الماضي على أشدها بين “مطبعين” وغير “مطبعين”، حتى استحال الأمر إلى ما يشبه محاكم تفتيش، وقد تزعّم السوري علي عقلة عرسان، والأردني فخري قعوار، معسكر محاربة المطبعين وإقصائهم من هيئات “اتحاد الكتاب العرب” الذي لا همّ له إلا التخوين.
والتطبيع ـ أعزك الله ـ في أذهان هؤلاء، هو كل ما يمكن أن يخطر بخلدنا من قبيل إعادة النظر في القضية أو النزوع نحو الحوار أو حتى مجرد الاطلاع على الأدب الإسرائيلي، فما بالك إن ترجم أحدهم نحو العبرية وهو لا يعلم بذلك.
“التطبيع” عبارة انتقلت على أفواه العامة كالنار في الجحيم، وصار مجرد أن تنصت أو تشاهد أو تحاور كل من له علاقة بإسرائيل ـ وإن كان معارضا لمشروعها الاستيطاني ـ شكلا من أشكال الخيانة، ولن يبرئك منها سوى أن تشتم العدو صبحة وعشية في كل إنتاجاتك.. لعل وعسى أن يرضى عنك كهنوت النضال الثوري.
ولو تأملنا في المفردة، وبمنتهى البراءة اللغوية، لوجدناها لا تعني سوى رد العلاقة إلى مستواها الطبيعي، حتى في حق الاختلاف، وليس الارتماء في حضن عدوك كما يزعمون.
شعارات الدغمائيين
أين كنتم حين كانت آمال المثلوثي تصدح بصوتها ورأيها في وجه الظلم والتجاوزات؟
بالعودة إلى مصطلح “محاربة التطبيع” الذي ينتعش منه عديمو الموهبة ويصدقه البسطاء والمغفلون، فقد عادت هذه الموجة للظهور في أوساط الدغمائيين والدونكيشوتيين، ومحاربي طواحين الوقت والحداثة والانفتاح.
آخر المستجدات تتمثل في حملة من جهة تونسية تدعي “مقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني”، وتمثلت في توجيه رسالة مفتوحة إلى الفنانة آمال المثلوثي، عقب إعلانها “إقامة حفل غنائي في القدس المحتلة ضمن مهرجان (ليالي الطرب في قدس العرب)، بالإضافة إلى إحيائها حفلًا آخر في رام الله”.
حجة الحاملين على الفنانة الشابة التي كانت أول من غنى لثورة الياسمين أن الأجدر بها “أن تكون قدوةً للشباب التونسي والعربي في رفضِ الاعتراف بالكيان الصهيوني والالتزام الملموس بدعم القضية الفلسطينية”.
وجاء في نص البيان، أن المطلوب من فنانة عربية ذات إشعاع عالمي مثل المثلوثي، هو التعريف بالمظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون والتأكيد على عدالة قضيتهم، و”ليس المساهمة في مسار التطبيع المقنّع، الذي انخرط فيه للأسف بعض الفنانين والمثقفين العرب بتشجيع من السلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال، وبعض المجتمع المدني القريب منها”.
هذه الشعارات المفخمة والمفخخة يحولها أصحابها حسب أهوائهم وأمزجتهم نحو فنانة رقيقة، مبدعة وتنضح اندفاعا وحيوية وجرأة ضد الممارسات البوليسية أيام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، أما كان الأجدر بأصحابها أن يوجهوها لأنفسهم: أين كنتم حين كانت آمال المثلوثي تصدح بصوتها ورأيها في وجه الظلم والتجاوزات؟
ليس هناك أسهل في عالم الفن والإبداع من ركوب الموجة الجماهيرية، وإنتاج الصراخات والعبارات المفرغة، أما الرقي الإبداعي فلا يتقنه إلا أصحاب العمق الإبداعي من ذوي الرؤوس الباردة والقلوب الدافئة.
ما زال العالم العربي يعاني من مثل هذه الممارسات التي تفسد الذائقة الفنية وتشوش عليها باسم الانتصار للقضية التي لا يضرها إلا مثل هؤلاء الدغمائيين.
يمضي الوقت وبعضنا مازال يجتر الشعارات الثورية دون وعي، ويغض النظر عن الجوهر الإبداعي حتى بات بعض المغنين والممثلين والرسامين يسوّقون الشعارات الساذجة البلهاء باسم الفن،، فإلى متى تستمر هذه المأساة التي لا يستفيد منها إلا الأعداء.
نقلاً عن العرب اللندنية