كريتر نت – متابعات
استفاقت العاصمة الأوكرانية كييف صباح الاثنين على وابل من الصواريخ الروسية من أنواع مختلفة ومدمّرة، انهالت عليها بعد يومين من تفجير الجسر الوحيد الواصل بين روسيا وشبه جزيرة القرم التي ضمتها في العام 2014، استهدفت البنى التحتية للمدينة بالإضافة إلى قصف شامل لكافة أنحاء البلاد، وجاء ذلك الرد حسب وسائل إعلامية كانتقام عنيف، إلا أنه أيضاً كان أولى العمليات العسكرية التي أشرف عليها شخصياً الجنرال سيرغي سوروفيكين قائد العملية العسكرية الخاصة الذي عينه بوتين بعد تفجير الجسر بساعات.
ووسط الانتكاسات الروسية في الحرب، وتمكّن القوات الأوكرانية من استعادة مساحات هائلة من الأراضي كانت قد استولت عليها روسيا، استبشر مسؤولون ومراقبون روس بتعيين سوروفيكين لإنقاذ الأوضاع من المزيد من التدهور. فسوروفيكين صاحب تاريخ كبير حقق خلاله العديد من الإنجازات العسكرية حسم بها معارك كبرى كادت أن تخسرها روسيا لولا قيادته. وسوروفيكين هو أول قائد عمليات يعلن وزير الدفاع عن تعيينه “قائدا لقوات العمليات الخاصة” في أوكرانيا، بعد أن كان صاحب هذا المنصب محاطا بالسرية.
المتغير الأكثر أهمية مع قدوم سوروفيكين هو أن القيادة الجديدة للعمليات لن تكون مضطرة للعودة إلى موسكو كما كان الوضع في السابق
وتسببت الإخفاقات العسكرية الروسية في اتخاذ بوتين لقرارات متلاحقة بإقالة مسؤولين كبار أثبتوا فشلهم في تحقيق نصر يمكن أن يجري استثماره ميدانياً أو سياسياً، وكثرت المطالبات من شخصيات بارزة باستخدام القادرين على إنجاز المهمة، فكان من بين أبرزها انتقادات مؤسس شركة “فاغنر” العسكرية الخاصة يفغيني بريغوجين ومعه الرئيس الشيشاني رمضان قديروف للخسائر الروسية الأخيرة، ولم يكن مستغرباً ترحيب الأخير بتعيين سوروفيكين بالقول “سيصحح أخطاء العملية العسكرية، القوات الروسية أصبحت الآن في أيد أمينة”، فسوروفيكين من مشاهير حرب روسيا في الشيشان.
وكان سوروفيكين المولود في نوفوسيبيرسك قد التحق بالجيش الروسي منذ العام 1982، ودرس في كلية أومسك العليا لقيادة الأسلحة المشتركة، وأكاديمية فرونزي العسكرية وأكاديمية هيئة الأركان العامة. ومنذ مارس 2017 يقود سوروفيكين ما تصفه وزارة الدفاع التابعة للكرملين “التجمّع العسكري الروسي في سوريا”. بعدها كلّف بقيادة القوات الجوية الفضائية الروسية، ويقصد بها سلاح الطيران الروسي.
وخدم في كل من أفغانستان وطاجيكستان والشيشان وبعدها في سوريا. وشغل منصب قائد المنطقة العسكرية الشرقية الروسية في العام 2013، وأسهم في إنشاء البنية التحتية العسكرية في جزر الكوريل وفي القطب الشمالي، وتقديراً لإنجازاته العسكرية في سوريا منحه الرئيس بوتين رتبة جنرال في الجيش.
ابن الانقلاب
المراقبون يستبعدون أن يكون لجلب سوروفيكين أي تأثير إذا لم يغير بوتين إستراتيجيته العسكرية في الحرب
يعرف سوروفيكين بأنه كان صاحب دور مهم خلال أحداث انقلاب أغسطس 1991 ضد الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، وكان حينها برتبة نقيب، وشارك في محاولة السيطرة على العاصمة موسكو قبل فشل المحاولة الانقلابية.
تم اعتقاله ووضعه في السجن لستة أشهر، لكن في النهاية أُسقطت التهم الموجهة إليه على أساس أنه كان ينفذ الأوامر، بموجب مرسوم عفو أصدره رئيس الاتحاد الروسي الأسبق بوريس يلتسين.
عاد سوروفيكين إلى الجيش وكان من بين أبرز تصريحاته وأكثرها شهرة وعده بـ”تدمير 3 مقاتلين مقابل كل جندي قتيل” خلال حرب الشيشان.
ويستحضر الروس مبادئ سوروفيكين حين يقارنون بين الأوضاع في أوكرانيا الآن، وما كانت عليه في المناطق التي حارب فيها. بينما يستبعد آخرون أن يكون لجلبه إلى ساحة المعركة أي تأثير يذكر إذا لم يغير بوتين الإستراتيجية العسكرية التي يعتمدها في حرب أوكرانيا.
وأعلن الأوكرانيون صراحة عن نيتهم استهداف البنى التحتية الروسية، واعتبروا أن حادثة الجسر هي البداية فقط، واستمر الوعد الأميركي والأوروبي بتزويدهم بالمزيد من العتاد رغم معاناة واشنطن في هذا الصدد ورغم إعلان الألمان عجزهم عن مواصلة الدعم بالطريقة ذاتها.
إلا أن سوروفيكين لا يقدم إلى المعركة من لحظة الصفر، فقد ترك له من سبقوه تركة يصعب تجاهلها. فهل ستكفي الصرامة العسكرية والحزم لتغيير مجرى الأحداث؟
المتغير الأكثر لفتاً للانتباه هو أن القيادة الجديدة للعمليات لن تكون مضطرة للعودة إلى موسكو كما كان الوضع في السابق، وهي مخولة حالياً عبر سوروفيكين باتخاذ القرار الذي تراه مناسباً وفي لحظته ودون إبطاء.
شهرة سوروفيكين تعود إلى دوره في أحداث انقلاب أغسطس 1991 ضد الرئيس السوفياتي الأخير غورباتشوف، حيث تم سجنه لستة أشهر ثم العفو عنه
خيارات التدمير
وبينما يطلق على سوروفيكين لقب “الجنرال هرمغدون” الذي يشير إلى معركة آخر الزمان في الثقافة المسيحية واليهودية، وذلك لشراسته في المعارك وقدرته على الحسم، يحمل أيضاً لقب “رجل الإطفاء” لأنه تمكن من إخماد مناطق تمرّد عديدة خلال مسيرته العسكرية.
في العام 2015 اضطر بوتين إلى الاعتماد على سوروفيكين في سوريا، كي يثبت انتصاره من الجو، بعد أن أخفق جيش النظام السوري في التقدم برّا، ويحاول اليوم تكرار التجربة، مع فارق كبير في الميدان وطبيعة تسليح المقاتلين وضخامة الإمداد.
كان يمكن في حلب السورية أن يؤثر تدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها، دون أن يكون لدى المقاتلين السوريين أسلحة دفاع جوي كفيلة بالرد أو بتعطيل قدرة الطائرات الروسية، لكن سيكون من الصعب فعل الأمر ذاته في كييف التي تحيط بها قوة دفاع جوي هائلة تمكنت من تحييد أكثر من نصف الصواريخ التي أطلقها سوروفيكين صباح الاثنين.
وتم وضع سوروفيكين على قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي في الثالث والعشرين فبراير الماضي، ويرد اسمه في قوائم مجرمي الحرب التي أعلنتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” منذ أكتوبر 2020 بين 10 من المسؤولين العسكريين والمدنيين الروس والسوريين الذين تم اتهامهم بارتكاب انتهاكات خطيرة في إدلب شمالي سوريا، ووصفت تلك الانتهاكات بأنها قد ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانيّة.
وقالت المنظمة في تقريرها إن هذه الشخصيات مسؤولة عن عشرات من الضربات الجويّة والبريّة وغير المشروعة على المدارس والمستشفيات والأسواق الشعبيّة المكتظّة بالمدنيين في الفترة الممتدة من أبريل 2019 إلى مارس 2020، والتي أودت بحياة مئات من المدنيين. ولم تمض 48 ساعة على تعيين سوروفيكين في منصبه حتى أعلن الاتحاد الأوروبي أن الاستهداف الروسي للمدنيين في الهجمات الأخيرة “يرقى إلى جريمة حرب”.
وخلال فترة قيادته للعمليات العسكرية في سوريا، وقع استهداف خان شيخون جواً بالسلاح الكيمياوي في أبريل 2017 بطائرات روسية من طراز “أس- يو 22” وأسفر الهجوم عن مقتل 91 مدنياً خنقاً، بينهم 32 طفلاً، و23 امرأة، وإصابة ما لا يقل عن 520 آخرين.
أدوار خارجية حساسة
سوروفيكين يعتبر أول قائد عمليات يعلن عن تعيينه في حرب أوكرانيا، بعد أن كان المنصب محاطا بالسرية
تشير تقارير أميركية إلى أن سوروفيكين كان قد تم تكليفه بمهام خارجية حساسة منذ العام 2000، وأن دوره ترافق مع صعود دور بوتين سواء حين كان رئيساً للوزراء أو رئيساً للاتحاد الروسي.
كما رافق سوروفيكين بوتين في عدة “مأموريات خارج روسيا”، واتهمته صحيفة “نيويورك تايمز” بقتل ثلاثة متظاهرين في موسكو.
وحُكم على سوروفيكين عام 1995 بالسَّجن مع وقف التنفيذ بتهمة المتاجرة غير الشرعية بالسلاح، وفقاً لوثيقة صادرة عن مؤسسة جيمس تاون، وهي مؤسسة فكرية في واشنطن، وبعد فترة وجيزة تم إلغاء إدانته. وتقول وزارة الدفاع البريطانية إنه وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً “كانت مهمة سوروفيكين مليئة بالفساد والوحشية”، كما تصفه الأوساط العسكرية الاستخباراتية بالكلمات التالية “في الجيش اشتهر سوروفيكين بقسوة مطلقة”.
لقب سوروفيكين “الجنرال هرمغدون” يشير إلى شراسة معركة آخر الزمان، بينما يسميه البعض “رجل الإطفاء” لتمكنه من إخماد مناطق تمرّد عديدة
ومنحه بوتين بعد ما اعتبرها إنجازات عسكرية في طاجيكستان أوسمة بطل روسيا، والقديس جورج من الدرجة الرابعة، والشجاعة، والعديد من الأوسمة والنياط. وما يفسّر ثقة بوتين به وقربه منه، ظهور سوروفيكين في احتفال مع عدد من الجنرالات الروس بقاعدة حميميم غربي سوريا، ووقتها انتشر مقطع فيديو لجنرال روسي يشبه سوروفيكين وهو يمسك رئيس النظام السوري بشار الأسد من يده ويمنعه من الاقتراب من بوتين.
ويجد سوروفيكين نفسه بمواجهة انسحاب مذل للقوات الروسية منذ بداية سبتمبر الماضي من القسم الأكبر من منطقة خاركيف تحت ضربات الأوكرانيين، بالإضافة إلى خسارة القوات الروسية 500 كيلومتر مربع من الأراضي في منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا، ومعاناتها مع الطوق الذي ضرب حول بلدة ليمان بمقاطعة دونيتسك التي سيطرت عليها القوات الأوكرانية في النهاية.
وقبل بدء الانحسار الروسي عن تلك الأراضي كانت أحدث إحصائية نشرتها وزارة الدفاع الأوكرانية قد تحدثت عن أن خسائر الجيش الروسي بلغت أكثر من أربعين ألف شخص، وأعدادا كبيرة من الدبابات والمعدات العسكرية والمعدات الخاصة وأنظمة الصواريخ.
سوروفيكين الذي يعدّ المسؤول عن إنشاء الشرطة العسكرية الروسية، وهي منظومة انضباط جديدة داخل الجيش الروسي، عليه أن يتعامل مع ذلك الآن في لحظة قد يضرّ بها التصعيد قدرما تفعل التهدئة.