تونس – صغير الحيدري
فجّرت دعوة أستاذ القانون الدستوري التونسي أمين محفوظ، إلى وقف بناء المساجد واعتبار ذلك إهدارا للمال العام واعتداء على مبادئ دستورية، سجالات عنيفة في وقت تشدد فيه أوساط تونسية على أن تلك الدعوة يجب التعامل معها بهدوء في ظل الطفرة التي عرفتها البلاد في بناء المساجد.
وأحيى أستاذ القانون الدستوري التونسي أمين محفوظ، وهو من بين أبرز أساتذة القانون في بلاده، الجدل حول سؤال لا يزال يؤرق المسلمون وهو: أيهما أولى بناء المساجد أم النهوض بالمنشآت العامة؟
ولم تمر إلا سويعات قليلة مساء الاثنين إثر دعوته إلى وقف بناء المساجد وبدأت نقاشات ساخنة بشأن مقترح محفوظ، الذي انخرط بقوة في السجالات السياسية في تونس بمواقف جريئة، بين من أيّده لاسيما في ظل التراجع الذي تعرفه تونس على جل الأصعدة وبين المحافظين الذين لم يترددوا في كيل الاتهامات لأستاذ القانون الدستوري.
واعتبر أمين محفوظ أن “كل بناء لمسجد جديد هو اعتداء صارخ على جملة من المبادئ الدستورية وإهدار للمال العمومي”، موضحا في تدوينة نشرها عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أن “المساجد جزء من الملك العام للدولة غير قابل للتفويت فيه ولا لسقوط الحق بمرور الزمن، طبقا لأحكام القانون عدد 34 لسنة 1988، مخالف لأحكام الفصل 10 من الدستور، الذي ينص على حسن التصرف في المال العمومي”.
وأضاف متسائلا “ما دخل المطالب بالضريبة لينفق أمواله على ممارسة الشعائر الدينية من قبل الغير؟ أين مبدأ المساواة؟”.
تنامي الظاهرة
شهدت تونس إبان انتفاضة 14 يناير 2011 طفرة في بناء المساجد ما سمح حتى بدخول جمعيات ومنظمات على الخط تتلقى تبرعات من أجل تشييد مساجد جديدة ما فاقم حجم الميزانية المرصودة إلى دور العبادة تلك.
ولم يتردد مسؤولون في وزارة الشؤون الدينية في الكشف عن تعاظم النفقات المرصودة للمساجد حتى أن الوزير أحمد عظوم دعا في تصريحات سابقة إلى “ترشيد بناء المساجد على اعتبار أنّها تتطلّب مصاريف إضافيّة تتعلّق بالصيانة وأجور القائمين عليها، وهي تكاليف لا تستطيع الدولة تحمّلها”.
منير الشرفي: خطاب التكفير والعنف لا يزال منتشرا بكثافة في المساجد التونسية
وبالرغم من الانتقادات التي تواجهها وزارة الشؤون الدينية إلا أنها حاولت القيام ببعض الإصلاحات بما يشمل دور العبادة إلا أن تلك المحاولات قوبلت بردة فعل عنيفة من قبل المزايدين بالدين، حيث لم يتوان الوزير أحمد عظوم في 2017 خلال جلسة استماع له في البرلمان في جس نبض الشارع والأوساط الدينية بشأن إمكانية وقف بناء المساجد.
وشدد عظوم على أنه “لا نحتاج اليوم إلى بناء المزيد من المساجد الجديدة في مختلف أنحاء البلاد نظرا إلى الصعوبات المادية التي تمر بها”.
وحسب ما نشرته الوزارة، فإن البلاد تحتوي على ما لا يقل عن 6099 مسجدا في موفى العام 2019 وهو عدد ضخم بما تتطلبه دور العبادة تلك من مصاريف سواء على مستوى الصيانة أو العاملين فيها، ما يكون حتميا على حساب حاجيات عامة الناس والمنشآت العامة التي شهدت تراجعا لافتا سواء على مستوى التعليم أو الصحة أو غيره.
وقال رئيس مرصد الدفاع عن مدنية الدولة منير الشرفي “رغم غياب تحيين للأرقام حول المساجد في تونس وخاصة التي شُيّدت بعد 2011 إلا أننا أصبحنا نشاهد إقامة مساجد في كل مكان، مع تأثيث شبه سياحي مُكلف جدا، وصيانة يوميّة، ممّا يدل على أن الدولة تُخصّص أموالا طائلة للعناية بدور العبادة على حساب المؤسسات التعليمية والاستشفائية”.
وتابع الشرفي في تصريح لـ”العرب” أن “التونسي أصبح مرتاحا جدا في تعبّده في وقت يصعب فيه ضمان مداواته وضمان تعليم أبنائه في ظروف مقبولة. وهو وضع لا يُمكن أن يتواصل”.
وسلّطت الأزمة الصحية الناجمة عن تفشي فايروس كورونا المستجد الضوء على هشاشة قطاع الصحة، حيث ترزح المستشفيات تحت وطأة أوضاع صعبة ما أفرز نقصا فادحا في المعدات الطبية وغيرها، وهو ما شكل مدعاة للتساؤل عن الأموال الطائلة التي تُصرف على دور العبادة بينما تشكو تلك المؤسسات الصحية والتعليمية من أوضاع مزرية.
الإسلاميون على الخط
كان متوقعا أن يدخل الإسلاميون في تونس على الخط ليجتمعوا على مهاجمة أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ، خاصة أن هؤلاء لا يزالون يسعون إلى دغدغة مشاعر المسلمين رغم أن الرئيس سعيد الذي يُعد خصمهم السياسي الأول سحب البساط من تحت أقدامهم في هذا الصدد، حيث يبدو الرجل محافظا ويُنافسهم على نفس “الأصل التجاري”.
وشنّ رئيس كتلة ائتلاف الكرامة، وهو حزب فتي يُعد واجهة لحركة النهضة الإسلامية، سيف الدين مخلوف هجوما على أمين محفوظ قائلا في تدوينة “بعد أن باع شهاداته ومصداقيته بثمن بخس، وضمن مكانه في المحكمة الدستورية القادمة عبر فتاويه ‘الدستوريّة’ الشاذة، يقدم فتوى مسقطة ورديئة أكثر من فتوى المحكمة الدستورية، وهذه المرّة عبر الطعن في بيوت الله!”.
ولئن ابتعدت حركة النهضة الإسلامية، التي تضم وجوها متشددة عن التحدث باسم الإسلام في محاولة لتقديم نفسها في ثوب جديد خاصة بعد مؤتمر 2016 الذي أقر الفصل بين الدعوي والسياسي، فإن تنظيمات مقربة منها على غرار ائتلاف الكرامة لا تُفوت أي فرصة لإبراز الخصوم على أنهم بصدد محاربة الإسلام.
وبصرف النظر عن التأويلات التي ذهبت فيها الأوساط التونسية لتدوينة أمين محفوظ، فإن العديد من الاعتبارات تجعل من الإسلاميين عاجزين اليوم عن إعادة التونسيين إلى دائرة الاستقطاب بين علمانيين وإسلاميين.
وقال المحلل السياسي محمد صالح العبيدي، إن “دعوة محفوظ لا تصب في مصلحة الإسلاميين، لأن هؤلاء لا يمكنهم مواصلة المزايدة بالدين ولا غيره من القضايا لأن خصومهم اليوم أصبحوا يتجنبون السقوط في فخ الاستقطاب بين علمانيين وإسلاميين”.
محمد صالح العبيدي: دعوة محفوظ لا تخدم الإسلاميين العاجزين عن المزايدة بالإسلام
وتابع العبيدي في تصريح لـ”العرب” أن “الرئيس سعيد يتحرك في ملعب النهضة نفسها حيث برز الرجل كمحافظ، ونفس الأمر ينطبق على جل خصومها، ما سيحشر الإسلاميين في الزاوية، علاوة على أن النقاش مفتوح أمام الجميع لذلك لم يعد هؤلاء يحتكرون التحدث باسم الإسلام”.
وأوضح “ثم أعتقد أن مثل هذه الدعوات ينبغي التعامل معها بعقلانية لأن البلاد تشكو أوضاعا صعبة على كافة المستويات وينبغي قدر من الحوكمة لانتشالها من أزمتها”.
ولكنّ أوساطا أخرى لا تساير العبيدي رأيه حيث حذر المحلل السياسي برهان بسيس من أن تقدم مثل هذه الدعوات “هدية مجانية” لحركة النهضة الإسلامية، قائلا “ستقول النهضة لأنصارها: شاهدوا أنصار قيس سعيد كيف يضربون الإسلام” في إشارة إلى أمين محفوظ الذي يعد مقرّبا من الرئيس سعيد.
معضلة الأئمة
بما أن النقاش قد فُتح حول الموارد المخصصة للمساجد، فإن ذلك يحيل مباشرة على ملف آخر لا يقل أهمية وهو مدى سيطرة الدولة على تلك المساجد وأئمتها خاصة أن تلك المساجد مثلت لسنوات حاضنة أساسية للفكر المتشدد في تونس.
وبالرغم من أن الحكومات التي مسكت بزمام الأمور منذ 2013 بعد انتهاء حكم الترويكا الذي قادته حركة النهضة الإسلامية والذي شهد اغتيالات سياسية وتسفيرا للشباب التونسي إلى بؤر التوتر على غرار سوريا وليبيا والعراق عملت على تحييد المساجد والخطاب الديني، إلا أن الشكوك تُخامر المتابعين إزاء نجاحها في ذلك.
وقال منير الشرفي إن “الحكومة التي تولّت السلطة بعد 2013، بعد إسقاط حكومة علي العريض الإخواني، شرعت في مراقبة المساجد، وأبعدت عددا من الأئمة المُتشددين والتكفيريين، وخاصة منهم من كانوا يدعون الشباب ليُسافروا للجهاد في سوريا. إلا أنها لم تتمكّن من إبعاد كافة المُتطرفين”.
واستدرك الشرفي “لكن، سرعان ما استرجعت حركة النهضة السلطة، وأبقت على العديد من أئمة الجوامع المتطرفين. وها نحن نعيش في دولة يتعلّم فيها الشباب خطاب التكفير والعنف والتطرف الديني في ظروف مريحة، بعد أن كان يتعلّم العلوم الحديثة في ظروف لائقة لم يبق منها إلا ذكريات الكهول”.
المصدر : العرب اللندنية