
أحمـــــــــــد عبداللاه
لم يكن الممثل الكبير أحمد زكي مطرباً بالمعنى التقليدي، لكنه امتلك ذلك الدفء، المرتبط بالانفعال الدرامي، في طبقته الصوتية، وتلك القدرة على التحكم في تدرجات النبرة، بحيث تخرج أي جملة يغنيها من عمق الشخصية المجسدة قبل أن تتشكل على الحبال الصوتية.
ويكفي أن تنزاح الكاميرا قليلاً ليأخذك فوق تضاريس التلوين الصوتي الذي يترجم طيف الإحساس المتنوع، من فرح ساخر إلى حزن موقوت، إلى سخرية مُرّة.
ليست تلك سمة عابرة، بل علاقة دائمة أقامها مع صوته كأداة درامية قبل أن تكون وسيلة طربية. ولهذا بدا أحمد زكي، في كل كلمة، وكل نبرة، وكل مقطع غنائي داخل الفيلم، نجماً متكاملاً يصعب أن تجد له شبيهاً، وممثلاً لا يتحدث كيفما يأخذه (السكريبت) وإنما يعيش، ومطرباً لا يغنّي وإنما يُجسّد.
في فيلم هيستيريا، يقف أحمد زكي (في دور المغني زين) وسط عرس شعبي، وأمامه عريس يتهدّل الفرح من ملامحه، رغم اتكائه على سنواته المتعبة، وبجواره عروس صغيرة للغاية تتوزعها البراءة، قبل أن تلملمها ابتسامة تائهة مشدودة لصوت مطرب العرس في أغنية “ودّع هواك”، التي تبدو أقرب إلى طرب ساخر منه إلى غناء أعراس بهيج على مزاج الحارات الشعبية المصرية.
كان المشهد خليطاً من أفراح وكوميديا وإيحاءات موجهة لرجل عجوز يرفض أن يودّع شبابه، وبجانبه فتاة صغيرة زرعت كلمات الغنوة فرحة على محياها كأنها لحظة نجاة قصيرة من مستقبل لا ينبغي أن يأتي.
لكن الحكاية لا تبدأ من هنا… لنعُد إلى الأصل:
محمد عبد المطلب، صاحب الألف موّال، فنان مصر الذي كان قادراً على تحويل الشوارع والأزقة بين حيّ السيدة والحسين إلى مشوار طويل من الشغف، يقاس بالشوق وبالأنفاس لا بالمسافات، حين يردد “يوماتي أروح له مرتين” ويطارد ظلّ محبوبته في قلب القاهرة القديمة.
ومن بين أعماله خرجت أغنية “ودّع هواك”؛ أغنية تبدو بسيطة في كلماتها، لكنها تحمل ثقل وداع لا يجرؤ كثيرون على النطق به.
كانت أشبه بصفعة ناعمة، أو بنصيحة متأخرة تُقال في اللحظة الفاصلة التي يدرك فيها الإنسان أن الوقت قد حان للانسحاب من معركة عاطفية خاسرة.
ومع الزمن، تجاوزت الأغنية حدود العاطفة. أصبحت شعاراً يتردّد في المواقف الاجتماعية، ثم وجدت طريقها، بغرابة الأحداث، إلى الفضاء العام والسياسة بالتحديد.
حتى إن أحد الإعلاميين أهدى الأغنية بصوت أحمد زكي للفريق سامي عنان عندما أعلن ترشّحه أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وكأنه يوحي له: “ودّع هواك… مبقاش ينفع معاك”.
“ودع هواك” لم تكن تخاطب المرشح وحده، بل كانت رسالة عامة مُرّة و جملة أكبر من أغنية، أشبه بإشارة تحذير تُلقى في وجه كل من يحاول اعتلاء منصّة لم تعد منصته، أو استعادة مكان انطفأت أضواء عصره فيه، لأن الزمن لا ينتظر أحد.
وهي، في جوهرها، لا تخص السياسة وحدها، بل تمتد إلى كل من فقد قدرته، أو تآكلت مكانته، أو تقادم به العمر.
لكل من يصرّ على مطاردة ظل ألّفه القلب ولم يعد موجوداً في الواقع. لكل من يقاوم الاعتراف بأن ما مضى قد مضى.
هناك لحظة لا يعود فيها التمسك بالماضي شغفاً أو بطولة، بل عبئاً.
لحظة يصبح فيها الوداع ضرورة، لا خياراً. عندها فقط تكتسب الجملة معناها الحقيقي:
عليك أن تودع هواك… فـ”عمر اللي فات ما هيرجع تاني”.














