كتب .. سام أبو أصبع
ثمة ميل متزايد لدى بعض الأصوات اليمنية إلى إرجاع كل أوجاع البلاد إلى ما يُفترض أنها “أفكار انفصالية” صاغها الحزب الاشتراكي اليمني ذات يوم، وتسببت ـ حسب هذه الرواية ـ في كل شيء: من انهيار الجمهورية إلى سقوط العاصمة صنعاء، ومن عسكرة الحياة السياسية إلى تفكك الدولة. هذه السردية، رغم بساطتها، تتغذى على ذاكرة انتقائية، وتُقدِّم تفسيرًا مريحًا لكنه ساذج لصراع معقد ومتعدد المستويات. بل إنها تُعفي المنظومة الحاكمة والمتحالفة التي سيطرت على البلاد بعد حرب 1994 من أي مسؤولية، وتُسقط من الحساب الدور المحوري الذي لعبته قوى الأمر الواقع وعلى رأسها جماعة الحوثي في تدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة واستدعاء التدخلات الخارجية.
الحزب الاشتراكي لم يكن يومًا مشروعًا تفكيكيًا. بل على العكس، كان هو من قدّم دولة كاملة بكل مؤسساتها عام 1990، من أجل إنجاز مشروع الوحدة، ساعيًا إلى إقامة دولة مدنية حديثة تقوم على التعددية السياسية والتوازن بين الشمال والجنوب. لكن ما جرى لاحقًا لم يكن تحقيقًا للوحدة بقدر ما كان استحواذًا على الدولة، وتحويلًا لها إلى سلطة مركزية أحادية. حرب 1994 مثّلت لحظة مفصلية في مسار الوحدة، حين حُسم الخلاف بين الشريكين بالقوة، لا بالحوار، وتم إخراج الحزب الاشتراكي من المعادلة السياسية قسرًا، وتكريس احتكار القرار من صنعاء.
منذ ذلك الحين، لم يُمنح الجنوب، ولا الحزب الاشتراكي، فرصة للمساهمة الجادة في إدارة الدولة. بل بدأت مرحلة من التهميش والاستبعاد، أنتجت في النهاية شعورًا واسعًا بالغُبن، تجلى في صعود الحراك الجنوبي والمطالبات بالإنصاف. حين عاد الحزب للمشاركة في العملية السياسية خلال مؤتمر الحوار الوطني، لم يكن ينفّذ أجندة سرّية لتفكيك اليمن، بل قدّم – مع غيره من القوى – مشروعًا للفيدرالية كمخرج سياسي ينقذ الدولة من مركزية أرهقتها التراكمات. الفيدرالية لم تكن خيانة، بل محاولة لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة ومكوناتها، ضمن إطار وطني جامع.
المفارقة أن كل تلك المحاولات قوبلت باتهامات التخوين، فيما كانت جماعة الحوثي، على مرأى ومسمع وبتواطئ البعض، تشق طريقها نحو إسقاط العاصمة، وتفكيك ما تبقى من مؤسسات الدولة. الحوثيون لم يُسقطوا صنعاء فقط، بل دمّروا ركائز الجمهورية، وفرضوا سلطتهم بقوة السلاح، وبمرجعية غير وطنية، وأعادوا تعريف السياسة باعتبارها امتيازًا لطبقة مختارة لا تخضع للمساءلة. ما جرى منذ 2014 لم يكن نتيجة “أفكار اشتراكية”، بل بسبب غياب الدولة، وتفكك المؤسسات، واستخدام الورقة الطائفية كسلاح للاستحواذ.
وإذا كان الحوثي قد أعاد رسم الخارطة السياسية بقوة الأمر الواقع، فإنه أيضاً تسبب في استدعاء تدخلات خارجية غير مسبوقة، فتحت شهية أطراف دولية على السيطرة على الموانئ والممرات المائية، من البحر الأحمر إلى خليج عدن، مرورًا بسقطرى. هذا التمدد الخارجي لم يكن ليسير بهذه السلاسة لولا انهيار الدولة المركزية، وتواطؤ أطراف محلية أعادت إنتاج الفوضى بدلاً من التصدي لها.
المفارقة أن الهجوم على الحزب الاشتراكي يتكثف اليوم من بعض القوى المنضوية تحت مظلة “الشرعية”، وهي نفسها التي لم تقدّم بديلاً وطنيًا جادًا، ولا رؤيا جامعة. بدلًا من توحيد الجهود لمواجهة الخطر الحوثي، تنشغل هذه القوى بإعادة إنتاج معارك قديمة، متجاهلة أن الخصم الحقيقي لا يُقيم وزنًا لليمن كدولة، بل يسعى لإعادة تشكيلها ضمن مشروع مغلق، لا يعترف بالتعدد ولا يملك تصورًا جامعًا للدولة.
في لحظة الخطر الوجودي هذه، يصبح استهداف الحزب الاشتراكي، أو أي مكوّن سياسي يحمل رؤية مدنية للدولة، نوعًا من العبث السياسي. البلاد بحاجة إلى عقل هادئ ونقاش ناضج، لا إلى حملات تخوين. فالمشروع الحوثي في جوهره ومظهره في الشكل والمضمون تمرد سلالي مذهبي مناطقي مسلح، اتى لتقويض كل أمل والقضاء على منظومة الدولة الحديثة، واستبدالها بمنظومة لا تكتفي بإقصاء الآخر، بل ترى في وجوده خطرًا على “الحق الإلهي”. لذلك فإن الحاجة ماسة اليوم لإعادة ترتيب الصف الجمهوري، وبناء تحالف وطني عريض يتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة، ويعيد تعريف الأولويات على قاعدة واضحة: إنقاذ الدولة أولًا.
إن الاشتراكي، بكل ما له وما عليه، لا يستحق أن يُحوّل إلى فزاعة. بل ربما هو أحد الأصوات القليلة التي حافظت على وضوح موقفها من الجمهورية، والدولة المدنية، والسيادة الوطنية. اتهامه اليوم تارة بعدم الفعالية وتارة بالعمل ضد وحدة اليمن، فيما الحوثيون يتوسعون، والمصالح الإقليمية تتعمق، ليس فقط ظلمًا للتاريخ، بل عجزًا عن قراءة الحاضر، وتهربًا من مواجهة الحقيقة كما هي..
نقلا عن صحيفة الثوري