كتب : محمد الثريا
أضطر حسن للذهاب إلى أحد أرياف مدينة الحديدة واحضار قريبه سعد من هناك .
سعد الذي بات يعيش حالة من الحزن الشديد بعد ان غيب الموت زوجته أم جعفر مما دفع به الى الانعزال في المنزل والابتعاد كلية عن مخالطة الناس الامر الذي استدعى تدخل حسن وأهمية اخراجه من حالة الانطواء تلك .
وخشية من حسن في ان تسؤ حال قريبه اكثر جراء ملازمته جو المنزل والذكريات فقد جعل يكثف محاولاته وجهوده في سبيل إقناع سعد بضرورة المغادرة معه الى مدينة الحديدة والخروج من دأئرة الكآبة هذه .وبالفعل تمكن حسن أخيرا من اقناع سعد بذلك .
امام شارع المدينة الرئيسي وفيما الناس المكتظة تمر كعادتها هناك كل صباح سعيا خلف اعمالها وارزاقها وضوضاء احاديثهم وحركتهم تعم المكان كان سعد غالبا يكتفي بالنظر اليهم متعجبا وسارحا في خياله الى ان شاهده حسن بهذه الحال فيقطع عليه حينها تلك السرحة والذهول بسؤاله : ما بالك يا سعد هكذا متعجب ومندهش من رؤية الناس وهي تمر خلال الشارع؟
أجاب سعد بلهجته التهامية البسيطة: انا والله مستغرب يا خيو من الناس هنا رايحة واجية ولا كأن أم جعفر ماتن ..
يبدو ان سعدا لازال اسير الذكريات والحزن الذي خلفه رحيل أم جعفر عن حياته ويبدو انه ايضا لم يدرك ان لا علاقة للناس في المدينة بما حدث معه في قريته بل انهم لايعلمون ولايكترثون أساسا لما حدث معه.
بلا شك ان بساطة تفكير المسكين سعد وتعلقه الشديد بعالمه الصغير المؤلم كانت هي من دفع به لقول تلك الكلمات والتي ستبدو قطعا بالنسبة للكثيرين جوابا ساذجا ويدعو للتندر .لكن بالاخير هذه هي حدود تفكير سعد فلاشيئ بات يتحدث عنه دون ذكر أم جعفر .
التطورات الاخيرة والتي تعد بمثابة معطيات جديدة طرأت مؤخرا على الساحتين الدولية والاقليمية وانعكاسات ذلك ايضا على مسار الازمة اليمنية جعلت جميع الاطراف المعنية بالصراع اليمني الراهن تشرع سريعا باتجاه اعادة تموضع مواقفها السياسية بل واعادة وحتى في غربلة بعضا من اوراقها كي تبدو متماسكة ومتناسقة اكثر مع الطارئ الجديد المفترض.
ففي حين توجه مذيعة احدى القنوات الفضائية سؤالا مباشرا عن كيفية مواجهة كورونا يجيب البرلماني الروسي الضيف : ان واشنطن وموسكو وبكين بصدد وضع نظام اقتصادي عالمي جديد .
وحقا سيبدو ان السؤال كان غربا فيما اجابته كانت شرقا .
لكن في الاساس سنجد ان الضيف الروسي وبكل شفافية اختصر مشهد الجائحة تلك بالاشارة مباشرة نحو اسبابها وغاياتها الحقيقية .
في اليمن المحترب منذ سنوات عدة تمكن الاشقاء من حسم الخلاف والمواجهات التي نشبت بين اطراف موالية للتحالف في الجنوب باتفاق سياسي وقع بينها في العاصمة السعودية الامر الذي عزز الثقة والقدرة لدى قيادة المملكة بامكانية السيطرة على وضع المناطق المحررة وقت ما ارادوا وكيفما شاؤوا .
جيد ..وعلى هذا الاساس ربما تم تحييد قيادات الاطراف الموقعة ومنعها من الحديث او التعليق حول اسباب تعثر الاتفاق الموقع بل انه وصل الامر حد نفيها خارجا ، وبتنا حتى الساعة لا نسمع لها تصريحا ولا تعقيبا حول احداث ومستجدات الداخل ..ما السبب؟
التفسير السياسي الاقرب في ذلك هو ان المسار والحل السياسي الخاص بوضع الجنوب مستقبلا كما يبدو قد تم اعتماده وضمان الاقرار به من جميع القيادات في الانتقالي والشرعية وانتزاع موافقتها حول ضرورة التسليم به كرؤية وواقع يضمن مصالح الجوار والكبار قبل كل شيئ وما عليكم الا الاذعان لهذا فقط الزموا الصمت ريثما نكمل بقية المشهد في الشمال .
شمالا لازالت الوقائع والاحداث متقلبة واكثر فوضوية مما كنا نعتقد وهذا يدفع بنا نحو الاعتقاد بصدقية الحديث الدائر حول تعثر الوصول الى تسوية كاملة او اتفاق حقيقي وشيك بين المملكة والحوثيين.على الرغم من توارد انباء كثيرة مؤخرا حول قرب الاعلان عن إتفاق بينهما الا ان المشهد الشمالي يبدو حتى اللحظة مشهدا ضبابيا للغاية مع إمكانية التكهن بانقشاع تلك الكتلة الضبابية في اي وقت .فهل شاهدت يوما الشارع الشمالي يندب حظه جراء الانقلاب على دولة الوحدة ؟ او حتى الصرخ بوجه الجرائم التي يرتكبها الحوثيون؟ لاشيئ من هذا يحدث في الداخل الشمالي سوى الصمت والانتظار حتى يتفق القادة الشماليون مجددا وينتهي الامر
عموما ..تبقى محصلة تلك التحركات والتطورات المتلاحقة وآخرها كان اعلان قيادة التحالف عن وقف اطلاق النار لمدة اسبوعين استجابة لدعوة الامم المتحدة بغية مواجهة وباء كورونا هي بمثابة المؤشرات الفعلية الدالة على جدية النوايا والمساع الرامية الى إنهاء القتال كلية والسير في تسوية سياسية شاملة. مع اني شخصيا ازعم ان الخطوط العريضة لهكذا تسوية يتوقع اعلانها بين السعودية والحوثيين في لحظة قد اعتمدت منذ مدة فيما يبقى مبرر استمرار المعارك العسكرية الحاصل اليوم هو وجود الخلاف وعدم التوافق على بعض النقاط التي يراها الطرفان كما يبدو هامة وتحمل بعدا معنويا.
غير ان تدخلا بريطانيا او أمريكيا منتظرا سيكون من شأنه حسم ذلك الخلاف قبل الاعلان عن اتفاق شامل لإنهاء الحرب باليمن عامة ..
ما اود الاشارة اليه من خلال قصة الارمل سعد واستعراض جزء بسيطا من مشهد تبدل الاحوال والوقائع حول العالم جراء جائحة كورونا وكذا من خلال محاولة تفسير بعضا من معطيات المشهد الراهن باليمن جنوبا او شمالا .. !
هو ان سيلا جارفا تحكمه عقلية سعد لازال يتسيد الشارع الجنوبي .
ومع الأسف يتضح ذلك جليا من خلال أصرار موجة الغباء تلك على جر عامة الناس وجذب انتباه الشارع باتجاه قضايا واحداث لحظية وعابرة معظمها مفتعل. وبصراحة لقد تمكن هؤلاء فعلا من استهلاك وعي الشارع وتوجيه المزاج الشعبي باقتدار نحو تلك الاحداث بل نجحوا كثيرا في تسويقها وتقديمها وكأنها بمقام القضية الأم والأهم التي يجب التركيز عليها والوقوف عندها في الوقت الذي ينبغي ان نتفاعل وندرك عكس ذلك الامر تماما .
يجب معرفة ان العالم بات يتغير جذريا وذاهب نحو بناء تحالفات جديدة وبالتالي توازنات مختلفة . لهذ ليس غريبا ان السعودية والمنطقة برمتها باتوا بصدد فرض المشروع والرؤية السياسية الذاهبة الى اغلاق ملفات ساخنة عدة في مقدمتها الملف اليمني وبطبيعة الحال سيكون ذلك وفقا لمنظور عام يتماهى مع المسار المتوقع وحزمة التغيرات التي تنتظرها المنطقة والعالم ..
فإين يسير اؤلئك السطحيون واصحاب الفكر الضيق بدهماء الناس عندما يمعنون باستمرار في ممارسة تغييب الشارع وحرف بوصلة الرأي العام عن تطورات هامة واحداث مرتقبة تستدعي الحديث حولها والتركيز عليها بدلا من الركض وراء فبركات وحوادث عرضية ومفتعلة كالتي يحاولون لفت انتباه الشارع اليها اليوم ..
كنت اتمنى ان اشاهد جزء بسيطا من اهتمام صبية سعد الكبير بقضية الفيلا والقات ليتناول على الاقل تصريحات السفير البريطاني الاخيرة حول الاستحقاقات المرتقبة المتعلقة بمستقبل الجنوب والازمة عامة ..
وكنت ارجو كذلك تسابق المنشورات وفيديوهات البث باتجاه دعم جهود الوساطة الجارية لنزع فتيل المواجهة بين الاخوة في شقرة ومحيطها بدلا من جعل جميع سويعاتها في الحديث عن مناكفات الجاليات الجنوبية ومناقرة الجنوبي الآخر المختلف رأيا ورؤية ..
لا ارغب حقيقة .. بان أستفيق يوما على بكاء احد مناضلي تويتر وصانعي الحبكة الفيسبوكية وهو يقول : الناس تقاسمت الكعكة واغلقوا الملف ولا كأن معنا قضية جنوبية عادلة سقط الآف الشهداء والجرحى لأجلها ..
لازال حسن يحاول اقناع سعد بترك ذكرى ام جعفر قليلا والنظر بايجابية نحو المستقبل ولربما ينجح يوما في ذلك. فهل ينجح الجنوبيون قريبا في مغادرة بوتقة الفكر الضيق في تحديد اولوياتهم ومهامهم والتعاطي جيدا مع مستجدات محيطهم السياسي دون ممارسة دور سعد؟ ..