كتب .. وليد صالح عياش
الأمين العام للمجلس الوطني للأقليات في اليمن
حين تُرتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما جرى بحق البهائيين في اليمن من سجنٍ وملاحقةٍ وتعذيبٍ وتشويهٍ للسمعة عبر خطاب الكراهية، مرورًا بعمليات إبادة ثقافية واضطهاد منهجي مارسته جماعة الحوثي بشكل مباشر، وجماعات الإسلام السياسي الأخرى بشكل غير مباشر؛ فإن استعادة العدالة لا تُمثّل مطلبًا فئويًا لمجتمعٍ ديني معين، بل ضرورة وجودية لمستقبل الوطن ككل.
فلا يمكن بناء دولة عادلة أو مجتمع متماسك دون مواجهة تلك الحقائق المؤلمة، والاعتراف بها، والعمل على تفكيك بُناها البنيوية التي سمحت بوقوعها. إن تحقيق العدالة المستقبلية يتطلب وعيًا عميقًا بطبيعة العدالة كمنظومة أخلاقية وقانونية تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وترسّخ القيم التي تحفظ كرامة الإنسان بغضّ النظر عن معتقده أو انتمائه.
وفي هذا السياق، تُعد العدالة الانتقالية إحدى أهم الأدوات القانونية والسياسية لتحقيق الإنصاف، وهي منظومة تقوم على أربعة أبعاد متكاملة:
⸻
أولًا: العدالة الجنائية
وهي المعنية بمساءلة الجناة ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الانتهاكات، على مختلف مستوياتهم. الإفلات من العقاب يقوّض سيادة القانون ويفتح الباب لتكرار الجرائم.
الإحالة القانونية:
نصت المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن الإفلات من العقاب (Principles to Combat Impunity) على أن الدول ملزمة بمحاكمة ومعاقبة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة، بما فيها الجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
أمثلة دولية:
• محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية.
• المحكمة الجنائية الخاصة برواندا بعد الإبادة الجماعية.
• محكمة سيراليون الخاصة لمحاسبة قادة الميليشيات عن جرائم الحرب.
ينبغي لليمن، في سياق العدالة المستقبلية، أن ينشئ آلية عدلية خاصة – سواء كانت محكمة وطنية أو هيئة هجينة – تحقق في الانتهاكات المرتكبة بحق البهائيين وغيرهم من الأقليات، وتُخضع المتورطين للمساءلة القانونية العادلة.
⸻
ثانيًا: العدالة التعويضية
تهدف إلى جبر الضرر الذي لحق بالضحايا، سواء أكان ماديًا أو معنويًا، بما يشمل إعادة الممتلكات المصادرة، والاعتراف الرمزي، والتعويضات المالية والنفسية.
الإحالة القانونية:
تنص المبادئ الأساسية والتوجيهية للأمم المتحدة بشأن الحق في الانتصاف والتعويض (2005) على وجوب تمكين ضحايا الانتهاكات من سُبل فعالة للتعويض وإعادة التأهيل والاعتراف.
أمثلة دولية:
• جنوب إفريقيا خصصت برامج لإعادة إدماج وتعويض ضحايا الفصل العنصري.
• كولومبيا أقرت قانونًا لتعويض ضحايا النزاع المسلح داخليًا.
وفي السياق اليمني، من حق البهائيين المطالبة بتعويضات عادلة عمّا نُهب من ممتلكاتهم، وما فُرض عليهم من غرامات وسجن وتشريد، بما في ذلك الأضرار النفسية الناجمة عن نزع الأطفال من أهاليهم والتحريض الإعلامي والديني ضدهم.
⸻
ثالثًا: العدالة التصالحية
تُعنى بإعادة بناء الثقة والعلاقات بين مكونات المجتمع، وبين الدولة والمواطنين، عبر آليات المصالحة والحوار المجتمعي والاعتراف المتبادل.
الإحالة القانونية:
أقرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن المصالحة لا يمكن أن تقوم دون اعتراف صريح بالحقيقة ومشاركة الضحايا في العملية.
أمثلة دولية:
• لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا، التي سمحت للضحايا بسرد معاناتهم وللجناة بالاعتراف مقابل العفو المشروط.
• لجنة الذاكرة التاريخية في كولومبيا، التي وثّقت الجرائم بحق المدنيين وشجعت التعايش بعد النزاع.
• بيرو، حيث شجّعت الدولة الاعتراف بضحايا الحرب الداخلية بين الجماعات المسلحة والحكومة.
في اليمن، ينبغي إنشاء هيئة للحقيقة والمصالحة تفتح المجال أمام الضحايا – من البهائيين وغيرهم – لسرد معاناتهم في فضاء علني، بما يعيد للذاكرة الوطنية شفافيتها، ويُمهّد لتضميد الجراح الجماعية.
⸻
رابعًا: العدالة الوقائية
تهدف إلى منع تكرار الانتهاكات مستقبلًا من خلال إصلاح المنظومات الأمنية، والتعليمية، والدينية، والدستورية.
الإحالة القانونية:
تدعو خطة الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية (2004) إلى بناء آليات وقائية تتضمن تعزيز سيادة القانون، وتجريم خطاب الكراهية، وضمان تمثيل الأقليات في صنع القرار.
أمثلة دولية:
• رواندا غيّرت المناهج التعليمية لتعزيز وحدة الهوية الوطنية.
• لبنان أقرّ قانونًا لتجريم التحريض الطائفي.
• المغرب قام بمراجعة خطاب المساجد وأخضعه لرقابة وطنية من أجل تعزيز قيم الاعتدال.
وفي اليمن، لا بد من إدراج حماية حرية الدين والمعتقد في الدستور، وتجريم كل أشكال التحريض الطائفي والديني، ووضع آليات رقابية مستقلة لضمان احترام التعددية الفكرية والعقائدية، بما في ذلك إصلاح المناهج التعليمية التي أسهمت في نشر الكراهية والتعصب.
⸻
ختامًا، فإن معالجة ما جرى من انتهاكات بحق البهائيين في اليمن ليست مجرد “تسوية” مع الماضي، بل هي مشروع تحوّلي لإنقاذ المستقبل.
العدالة الانتقالية، حين تُفعّل بمنهج شامل وشفاف، تُشكّل حجر الزاوية لإعادة بناء الوطن على أسس من الإنصاف والكرامة والضمير الحي.
ولن يكون هناك سلام دائم في اليمن ما لم تُفتح ملفات الانتهاكات على مصراعيها، وما لم يُعاد الاعتبار لكل صوتٍ سُجن لأنه آمن، أو شُرّد لأنه أحب، أو صُلب لأنه اختار أن يعبد الله بطريقته.















