مسعد عكيزان
أتذكر جيدا أن التلفزيونات كان عددها قليل جدا في ذلك الزمن، ولم تغز الصحون أسطح المنازل بعد لالتقاط إشارات القنوات الفضائية.
كان بالقرب من منزل عمي الذي أقيم فيه حينها عند جدتي؛ بيت صاحب ورشة لحام وكان عماله يسكنون عنده بالبيت.
كان لدى العمال جهاز فيديو يشاهدون الأفلام السينمائية، وقد شاركتهم إحدى لياليهم في الاستمتاع بمشاهدة أحد أفلامهم، وكنت حينها لا أزال صبيا.
لم أعرف حينها ما اسم الفيلم الذي يتناول قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من هم هؤلاء الذين يظهرون على الشاشة!
أعتقد أنه أول فيلم شاهدته في حياتي، ولم يكن لدي بعد أي انطباع مسبق عن السينما أو تاريخ الأفلام هذه التي تعرض على الشاشة الصغيرة.
حينها لم يدر بخلد الصبي أي أفكار إطلاقا غير استمتاعه بمشاهدة الفيلم الذي يساويه في العمر منذ ظهوره بصالات العرض.
شاهدت فيلم الرسالة لاحقا مرات عديدة من قنوات فضائية عدة ليعيد لي ذكريات الماضي الجميل، غير أني عرفت أكثر عن الفيلم حتى ما هو أبعد مما يظهره من مشاهد وأحداث.
ومن اللافت جدا هو ما لاقاه مخرج الفيلم الراحل مصطفى العقاد في سبيل إنتاجه للفيلم الذي أراد به إخبار العالم بقصة الرسول ودعوته الإسلامية للعالم الذي يجهل أصول هذا الدين الذي تلصق به في عصرنا الراهن تهم أبرزها الإرهاب.
ولدت الفكرة عام 1970م في أمريكا، حيث شاهد العقاد جهل الناس بالإسلام فراودته فكرة إنجاز عمل سينمائي يضع الصورة بوضوح لغير المسلمين عن الإسلام وحقيقة دعوته العالمية.
بطبيعة عمل المخرج مصطفى العقاد استقرت فكرته أن يخرجها في فيلم روائي فعارضه حينها صديقه السيناريست الكويتي محمد السنعوسي الذي رأى أن تخرج في صورة فيلم وثائقي.
بدأت رحلة الفيلم من هنا، وواجه العقاد صعوبات كبيرة في استقطاب جهات داعمة لانتاج الفيلم بما يحتاجه حينها من إمكانات جبارة لانجازه.
توجه العقاد والسنعوسي إلى بيروت، والتقيا برجل الأعمال المشهور عدنان خاشقي، فتكفل بدعم المشروع، وتم تأسيس شركة فيلمكو عام 1971م، ولكن كان كل الدعم الذي حصلا عليه لا يتجاوز 350 ألف دولار.
أصيب العقاد بالاحباط نتيجة شحة الإمكانيات، فكانت قبلتهما الجديدة هي الكويت
فكان الفضل الكبير لوزير المالية والنفط عبدالرحمن العتيقي الذي نصحهم بالذهاب الى البحرين لتأسيس شركة إنتاج، لأن القيود القانونية الضريبية سهلة التعاطي وأرسل العتيقي رسالة لنظيره البحريني يوسف الشيراوي وكان الأخير أكثر حماسا لإنتاج الفيلم، وفي المنامة تم تأسيس “الشركة العربية للإنتاج العالمي” وقدم الشيراوي تعهدا خطيا بإعفاء الشركة والفيلم من الضرائب 15 سنة.
تحمست الكويت ودفعت 25% من رأسمال الشركة ومثلها البحرين وليبيا والربع الأخير كان قرضا على ذمة الشركة.
ورغم معالجة قضايا التأسيس للكيان المؤسسي إلا أنها كانت في انتظار العقاد تفاصيل أشد صعوبة من الاجراءات التأسيسية فقد واجه المؤسسة الدينية وتعقيداتها حيث ضغطت على ملك المملكة العربية السعودية في معارضة الفيلم وعدم السماح بإنتاجه.
في محاولات مستميتة من العقاد للتغلب على تلك الصعوبات ذهب إلى السعودية لمقابلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله إلا أن مساعيه باءت بالفشل.
إلا أنه استطاع أن يحصل على تصريح بإنتاج الفيلم من مؤسسة الأزهر والمجلس الأعلى الشيعي بلبنان.
استعان العقاد بنخبة من ألمع كتاب السيناريو على رأسهم عبدالحميد جودة السحار.
قام العقاد برحلة استطلاعية في أكثر من دولة عربية لاختيار الأماكن المناسبة للتصوير، والحصول على التصاريح الرسمية.
أخيرا حط العقاد عصا الترحال في المغرب، وقرر أن يكون التصوير بقرية تبعد مسافة نصف ساعة عن مدينة مراكش، وتم بناء مدينة إنتاج متكاملة جلب العقاد إليها الخبراء من مختلف أنحاء العالم، وتم البدء في أعمال التصوير.
غير أن السياسة لم تترك للعقاد حاله، وطاردته إلى أقصى البلاد العربية واستطاعت إيقاف أعماله وتحطيم آماله في وجود مرفأ آمن لتحقيق حلمه، فقد صدم بمذكرة توقيف من وزارة الإعلام المغربية بناء على الضغوط السعودية على ملك المغرب الذي يحتاج لمساندتها في الأمم المتحدة في قضية الصحراء.
اضطر العقاد لمواصلة رحلة البحث مرة ثانية، فتوجه إلى ليبيا بناء على نصيحة عبدالفتاح الوسيع، وعرض على الرئيس القذافي مشاهد من الفيلم؛ والتي صورها في المغرب ما جعل الأخير يتحمس لاستكمال إنتاج الفيلم، ووافق على استقبال العقاد وتوفير الدعم الذي يحتاجه.
استكمل العقاد في ليبيا ما بدأه في المغرب، واستكملت أعمال المنتجة في لندن عام 1977م. وقرر أن يكون عرض الفيلم في لندن حيث منعت كل صالات العرض في الدول العربية من عرض الفيلم. بل وبعد ثلاث سنوات من عرضه في دول العالم ما عدى الدول الإسلامية صدرت فتوى بتحريم عرضه من الأزهر الذي حصل العقاد على تصريح منها بإنتاجه.
حين عرض الفيلم في أمريكا كان سببا لاعتناق المئات من الأجانب الإسلام، والذي حدى بهم الفيلم إلى البحث والتحري عن حقيقة هذا الدين.
حقق الفيلم نجاحا منقطع النظير بنسختيه العربية والإنجليزية، وحصد أرباحا في السنوات الأولى من عرضه بلغت عشرة أضعاف تكلفة إنتاجه التي بلغت 17 مليون دولار.
بقي الفيلم ممنوعا من العرض في الدول العربية حتى عام 2007م حيث عرضته إحدى القنوات المصرية بعد موت مخرجه مصطفى العقاد بسنتين، والذي قتل في حادث تفجير في العاصمة الأردنية عمان بفندق مريديان في حفل زفاف ابنته.
جمع العقاد في تحفته السينمائية ألمع نجوم السينما من مختلف الدول العربية محققا ما عجزت السياسة عن تحقيقه مؤكدا برحلته الشاقة في سبيل تحقيق حلمه واقع الشتات العربي الإسلامي الذي نعيشه.
اليوم وبعد مضي ما يزيد عن أربعة عقود على ولادة فكرة فيلم الرسالة تحتفي الكثير من القنوات العربية بعرضه للمشاهدين تزامنا مع المناسبات الدينية، غير أن المشاهد لا يدرك حجم الصعوبات التي واجهها هذا العمل الفني قبل ظهوره إلى النور كشاهد على الخذلان والشتات الذي يعانيه الواقع العربي.
الأحد 11 أغسطس 2019م