بقلم : مسعد عكيزان
(حالة فصام)
هل أخبرتكم من قبل أني أعاني حالة تشبه الفصام؟
ربما يستغرب البعض ذلك وقد ينصدم الكثير لهذا التصريح، فكيف لإنسان سوي يتمتع بكامل قواه العقلية أن يحكم على نفسه أنه يعاني مثل هذه الحالة؟!
لا أخفيكم إن قلت لكم أني أحيا عالمين؛ أحدهما واقعي والآخر افتراضي(وليحذر الجميع حين يقرأ كلمة افتراضي أن يتبادر إلى ذهنه ذلك الواقع الذي منحه لنا الفضاء الالكتروني، فعالمي الافتراضي هذا سبق بكثير تحليقي بالفضاء الالكتروني).
شهدت الثمانينات تطلعات الكثير من الشباب اليمنيين وآمالهم وطموحاتهم التي كانت تعانق السماء، غير أن الوضع اختلف كثيرا في العقود الأخيرة، حيث على عكس ما سبقها اجتاحت الشباب موجة من الإحباط كانعكاس للوضع بصورة عامة، وتلك الحالة لها أثرها البارز بلا شك في المجتمع ومستوى وعي الشباب وتعاطيهم مع الواقع وانخراطهم في الحياة كقوة محركة وموجهة لها.
لقد لحقت أنا وأقراني أواخر الثمانينات المتزامنة مع التحاقنا بالمدرسة، لذا حظينا أولا بأساتذة أشقاء (هكذا كانوا يسمون دلالة على أنهم من خارج اليمن، إما مصريين أو سودانيين أو سوريين بدلا من استخدام مفردة أجانب).
وثانيا حظينا بأساتذة يمنيين كانوا يؤدون جزءا من الخدمة الإلزامية بسنة دراسية يقومون فيها بالتدريس بالمرحلة الابتدائية، والبعض من أولئك الأساتذة رغم خبرتهم المتواضعة بمجال التدريس إلا أنهم غرسوا في نفوس الناشئة الشيء الكثير من خلال توجههم للتعليم وتطلعهم للمستقبل بنفوس مقبلة على الحياة، متطلعة لتحقيق تجارب ناجحة، وقد تسنى للبعض منهم نظرا لتفوقهم الحصول على منح دراسية خارج البلاد، ما أتاح لهم تحقيق آمالهم وتوجهاتهم العلمية، والحصول لاحقا على فرص عمل ومسارات مهنية مميزة في مجالات مختلفة، فمنهم أطباء ومهندسين وغير ذلك من المهن العليا.
لقد كان هؤلاء لنا بمثابة القدوة التي نحاول أن نحتذي بها ونسير على خطا أصحابها، غير أن جعبة الأيام كانت تخبئ لنا غير ما كنا نأمل.
لقد قادنا السلف في طرق أرشدتنا إلى عوالم استطعنا أن ننفذ من خلالها إلى آفاق اجتبتنا من مرارة الواقع الذي من حولنا، فاعتبرناها مرافئ نهرب إليها ونلوذ بها من حرارة صحاري الحرمان وهاجرة الخذلان.
أهدانا بعض الأساتذة الأشقاء قصص المكتبة الخضراء ونحن في الصف الثالث الابتدائي، فعرفنا من خلالها الكثير من القصص العالمية مثل أليس في بلاد العجائب وغيرها من القصص التي كانت تخرجها المكتبة الخضراء في قوالب تناسب الأطفال مزودة بالصور.
وحصلنا أيضا على أعداد من مجلة بساط الريح اللبنانية التي كانت تحتوي على عدد كبير من القصص المصورة.
كانت مجلة ماجد الأسبوعية أيضا تصدر من دولة الإمارات، ونحصل عليها بعشرة ريالات، وحين يصعب علينا أن نحصل عليها بصورة فردية نتعاون في جمع ثمنها والحصول عليها بصورة جماعية.
تعرفنا على أجاثا كريستي في مرحلة مبكرة تحديدا في بداية المرحلة الاعدادية (كما كانت تسمى)، واقتحمنا عالم السير الشعبية كألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن والمياسة والمقداد وغيرها من الروايات والقصص التي منحتنا قدرا لا بأس به من الوعي وتفتح المدارك على أشياء كثيرة أصبحت اليوم ضربا من المستحيل لمن هم في سننا والمرحلة التعليمية أيضا.
أتذكر أننا كنا نتدبر أمورنا للحصول على الكتب والمجلات، والتي غالبا تكون عن طريق الاستعارة.
لاحقا وفي مرحلة التسعينات تعرفت على مجلة العربي الصادرة عن وزارة الإعلام الكوتية، وربطتني بها علاقة استمرت لسنوات طويلة اعتبرتها خلالها وجبتي الشهرية الفكرية التي لا غنى لي عنها، وسافرت من خلالها إلى الكثير من بلدان العالم، واطلعت على مختلف ثقافات الشعوب وآدابها، ومفكريها وأدبائها وعظمائها في مختلف المجالات.
استمرت الرحلة تأخذني أنا ورفاقي إلى مرافئ مختلفة نستطيع من خلالها أن نفر من واقعنا إلى واقع آخر وجدناه بين صفحات الكتب، أرحب وأوسع آفاقا رغم شحة المصادر التي نحصل من خلالها على تلك الكتب لعدم وجود مكتبات عامة أو أشخاص من حولنا يشاطرونا تلك الاهتمامات إلا أشخاص يعدوا على الأصابع استطعنا أن نجد لدى بعضهم التوجه الذي أتاح لنا فرصة الحصول على بعض ما لديهم من كتب.
وجدتني في منتصف التسعينات أنتقل من خانة المتلقي إلى المنتج لأنتهج الكتابة بشقيها الشعري والنثري، غير أنه لم يتسن لي إطلاقا نشر أي من كتاباتي طوال سنوات نظرا لشحة وجود قنوات إعلامية للعبور من خلالها والتواصل مع القراء.
ولولا أن أهدتنا حضارة الغرب ومفرزاتها قناة للعبور والتواصل مع القراء لما وصلت هذه الكلمات إلى القارئ، ولكان مصيرها النسيان كغيرها.
تشعبت طرق الحياة وسلك كل منا مسلكا، فمنا من حالفه الحظ واستطاع المحافظة على التوازن بين العالمين، ومنا من لم يجد في خضم الحياة وطرقها العتية ولو حتى أزقة تأخذه إلى تلك العوالم التي كنا نرتادها محلقين بعيدا نشهد فيها ما لم نستطع بلوغه على أرض الواقع.
عملت في مجال التدريس لسنوات، أهديت خلالها طلابي الكتب والمجلات لأغرس فيهم توجها حرص أساتذتنا غرسه فينا.
اليوم حين ألتقي بأحد منهم تحدثني نظراته بالكثير قبل أن ينطق بحرف واحد.
ما زالت حتى اليوم علاقتي مع الكتاب تشهد ازدهارا رغم تقهقر النظر كثيرا، والاستعانة الحتمية بنظارات قراءة تمنحني العبور إلى العوالم التي ألفتها، وأجد فيها ذاتي، فأتواصل مع أشخاص كثر وأتفاعل معهم بعواطفي ووجداني وأشاركهم لحظات الفرح والحزن، وألج معهم إلى دهاليز حياتهم فيمنحوني خلاصة تجاربهم وخبراتهم على طبق من ورق.
الجمعة 2 أغسطس2019م