كريتر نت / العرب
في يوليو 2014 دخل النزاع في اليمن مرحلة جديدة، بعد سيطرة الميليشيات الحوثية القادمة من صعدة على مركز محافظة عمران (50 كم شمال صنعاء) وكسر آخر خطوط الدفاع الجيوسياسية والعسكرية التي كانت تفصلهم عن صنعاء التي اجتاحوها بعد دخول عمران بحوالي شهرين فقط.
في طريقهم الشاق من جبال صعدة إلى القصر الجمهوري بصنعاء استخدم الحوثيون الكثير من التكتيكات والاستراتيجيات التي ساعدتهم في تحقيق حلمهم الذي كان يعده البعض مستحيلا.
إلى جانب التحشيد القبلي والدوافع السلالية والعرقية والمذهبية والتاريخية التي استحضرها الحوثيون في صراعهم مع خصومهم، كان هناك سلاح سري أجادوا استخدامه بحرفية عالية وهو سلاح الوسطاء الذين كانوا يسبقون الميليشيات الحوثية إلى أي منطقة يعتزمون اجتياحها وإخضاعها لسلطتهم.
ويمتد استخدام الحوثيين للوسطاء القبليين والاجتماعيين إلى فترة مبكرة حيث كانت لجان الوساطات بين الدولة اليمنية والمتمردين الحوثيين خلال حروب صعدة الست التي امتدت من العام 2004 إلى العام 2010 بمثابة طوق النجاة الذي كان ينتشلهم في اللحظات الأخيرة قبيل أي حسم عسكري يوشك على اجتثاثهم عسكريا.
كما وظف الحوثيون في مراحل لاحقة فترات الحوار السياسي التي تخللت الصراع العسكري في الاستعداد لجولات جديدة من الحرب مستغلين حالة الاسترخاء التي كان يدخل فيها الطرف الآخر المخدوع عادة بجولات السلام التي يستخدمها الحوثيون لإعادة ترتيب صفوفهم وكانت عادة ما تنتهي بجولة جديدة وأكثر عنفا وقسوة من الحرب.
سلاح الحوثي السري
كشفت الأحداث المتلاحقة في التاريخ اليمني السياسي المعاصر عن استخدام الجماعة الحوثية للوساطات كسلاح سري لتحقيق مآربها والوصول لأهدافها السياسية والعسكرية، ومقابل كل بضع كتائب مسلحة كان الحوثيون يحشدون كتيبة من الوسطاء القبليين والشخصيات الاجتماعية التي كانت تظهر الحياد، لكنها كانت في الخفاء تعمل لصالح الأجندة الحوثية. وبرع الحوثيون إلى حد كبير في استخدام الوساطات لإجهاض أي حشد عسكري أو رغبة في الحسم من قبل الدولة اليمنية في حروب صعدة الست.
وبوتيرة متصاعدة كانت الحروب تتوقف عند كل منعطف حاسم. وتحوّل أشهر رؤساء لجان الوساطة خلال حروب صعدة بعد سيطرة الميليشيات الحوثية على صنعاء في سبتمبر 2014 إلى قادة بارزين في الجماعة الحوثية أو مسؤولين ورجال أعمال ضمن دائرة النفوذ والمصالح الحوثية ومن أشهر هؤلاء على سبيل المثال تاجر السلاح الشهير فارس منّاع، الذي عيّنه الحوثيون محافظا لصعدة بعد إكمال سيطرتهم عليها قبل تعيينه وزيرا للدولة في حكومة الانقلاب، ومن الوجوه التي عرفت أيضا بكونها أعضاء في لجان الوساطة الشيخ القبلي دغسان أحمد دغسان والشيخ ناصر قرشة وكلاهما أصبحا في وقت لاحق قيادات حوثية.
كانت المفاوضات تنتهي بجولات عنيفة وشرسة من الحرب كان الحوثيون يعدون العدة لها أثناء جلوس ممثليهم على طاولات الحوار
إضافة إلى ذلك، كشفت تقارير إعلامية عن إدارتهما لرؤوس الأموال الحوثية عن طريق شركات نفطية تعمل عل تبييض أموال الحوثيين واستقبال الدعم المالي القادم من إيران للجماعة.
ولعب الشيخ حسين عبدالله الأحمر نجل شيخ قبيلة حاشد دورا بارزا في الوساطات بين الدولة والحوثيين وبين الحوثيين وفصائل اجتماعية أخرى دخلت معهم في نزاع مثل سلفيي دماج على سبيل المثال، قبل أن يتحول هو نفسه إلى هدف حوثي عندما هاجمت الميليشيات الحوثية مسقط رأسه في قرية الخمري بمحافظة عمران في فبراير 2014، النزاع الذي انتهى بتفجير الحوثيين لمنزل الأحمر.
وتمحور دور لجان الوساطة التي كانت تشكلها الدولة اليمنية بين عامي 2004 و2010، حول تخفيف الضغط على الميليشيات الحوثية وإيقاف المعارك في اللحظات التي يوشك فيها الجيش اليمني على حسم المعركة، إضافة إلى خلخلة صفوف القوى الاجتماعية المناوئة للحوثيين وجرها إلى مربع الحياد السلبي وإضعاف تماسها في وجه المتمردين.
وبالرغم من النتائج الكارثية التي كانت تفضي إليها الوساطات، إلا أن الدولة اليمنية لم تتوقف يوما عن القبول بهذه الخديعة السياسية التي تسببت في نهاية المطاف بتقويض الدولة واجتياح الحوثيين لصنعاء ودخولهم القصر الرئاسي والانطلاق بعد ذلك نحو محافظات أخرى.
الوساطة القاتلة
ساهمت لجان الوساطة في استدامة النزاع بين الدولة اليمنية والمتمردين الحوثيين خلال الحروب: الثانية والثالثة والرابعة في صعدة التي امتدت من 2005 إلى 2007 غير أن دخول قطر على خط الأزمة اليمنية وإعلانها عن وساطة لحل النزاع بين الدولة والحوثيين في أواخر العام 2007 شكل منعطفا خطيرا في مسار الحرب اليمنية، حيث عملت الوساطة القطرية على تغيير موازين القوة وخارطة الاصطفافات القبلية والعسكرية داخل المجتمع الصعدي، عبر تحركات رئيس لجنة الوساطة القطرية سيف مقدم أبوالعينين الذي أقام في صعدة لشهور وعمل على استمالة شيوخ القبائل وكبار الضباط العسكريين لصالح الحوثيين تحت لافتة السلام.
واستطاع مقدم أبوالعينين إفراغ المجتمع في صعدة من حالة الرفض للمشروع الحوثي، وأنهى حالة العزل الاجتماعي التي كان الحوثيون يعانون منها، إضافة إلى الدور الذي لعبه في ضخ الأموال لخزينة الحوثيين المالية والمساهمة في تزويدهم بالسلاح عبر وسطاء آخرين من بينهم رئيس لجنة الوساطة السابق فارس مناع.
كما يرى العديد من الخبراء في الشأن اليمني أن الوساطة القطرية استطاعت تحويل الحوثيين من طرف محلي متمرد إلى ند للحكومة اليمنية يجلس معها على طاولة واحدة، إلى جانب مساهمة هذه الوساطة في نقل الأزمة اليمنية الداخلية مع الحوثيين إلى الخارج وتحويلها إلى مادة إعلامية متداولة في وسائل الإعلام الدولية.
وظهرت النتائج الكارثية للوساطة القطرية في حرب صعدة الخامسة التي اشتعلت في مارس 2008. وتحولت فيها موازين القوى لصالح الحوثيين الذين امتد نفوذهم إلى منطقة حرف سفيان في محافظة عمران، وفي الحرب السادسة بدا الأمر أكثر سوءا بعد عجز الجيش الحكومي عن تحقيق أي تقدم على الرغم من دخول قوات الحرس الجمهوري المعركة لأول مرة.
حوارات الحرب
أعلن الحوثيون مطلع العام 2013 عن قبولهم بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي رعته الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إلى اليمن آنذاك جمال بنعمر، لكنهم وضعوا شروطا سرعان ما قبلت بها الحكومة اليمنية وفي مقدمتها الاعتذار العلني عن حروب صعدة الست وتسليم جثمان مؤسس الجماعة حسين بدرالدين الحوثي الذي قتل في الحرب الأولى.
وانطلقت في مارس 2013 مسيرة الحوار الذي كان اليمنيون يؤملون أن يكون نهاية لحقبة الصراع السياسي والعسكري، لكن الحوثيين استغلوا مرحلة الحوار لإحكام سيطرتهم على محافظة صعدة وإنهاء وجود الدولة فيها بشكل كامل.
وشرعوا في تصفية خصومهم العقائديين وفي مقدمتهم السلفيون في منطقتي دماج وكتاف، بالتزامن مع تعزيز وجودهم في العاصمة صنعاء ومختلف المدن التي رسموا مبكرا خطط إسقاطها كما أظهرت وثائق تم تسريبها بعد ذلك.
انتهى الحوار اليمني في يناير 2014 لكن الحوثيين انسحبوا في الجلسة الأخيرة له وبدأوا في تنفيذ مخططهم الذي أعدوا التجهيز له خلال فترة الحوار. وكانت محافظة عمران هدفهم الأول، حيث أحكموا سيطرتهم عليها وشرعوا في نهب معسكرات الدولة ومؤسساتها في الوقت الذي كانت لجان الوساطة لا تزال تتحدث عن بنود اتفاق مزعوم يجري التفاهم حوله بين الحكومة والحوثيين، غير أن طموح الحوثيين لم يتوقف عند هذا الحد فقد كانت أعينهم على صنعاء التي اجتاحوها في 21 سبتمبر 2014 على وقع اتفاق السلم والشراكة الذي وقعوه مع الحكومة اليمنية برعاية الأمم المتحدة، بينما كانوا يكملون في الوقت نفسه سيطرتهم على مؤسسات الدولة ومعسكراتها في العاصمة.
السلام كتكتيك حربي
تكرست صورة بشعة لمفهوم الوساطة والسلام في قاموس الحوثيين لدى النخب السياسية والاجتماعية اليمنية. كانت ميليشيات الحوثي تستخدم لجان الوساطة كحصان طروادة في اجتياح المناطق. كما كانت المفاوضات تنتهي بجولات عنيفة وشرسة من الحرب، كان الحوثيون يعدون العدة لها أثناء جلوس ممثليهم على طاولات الحوار.
وإلى جانب استخدامهم لفترات السلام في إعادة ترتيب أوراقهم السياسية واستعداداتهم العسكرية، عمدت الميليشيات الحوثية إلى اللجوء لخيار التفاوض والحوار للهروب من مآزقهم الداخلية وانكساراتهم العسكرية، وهو الأمر الذي تجدد في جولات المشاورات التي رعتها الأمم المتحدة في سويسرا والكويت واستمرت لشهور وأنقذت الحوثيين كما يقول خبراء من هزائم عسكرية وشيكة كانوا على وشك الوقوع فيها.
وأكد الحوثيون على استخدامهم مفهوم السلام كتكتيك حربي عندما وقعوا على اتفاقيات ستوكهولم في ديسمبر 2018 عندما كانت قوات المقاومة المشتركة قاب قوسين من تحرير ميناء الحديدة الاستراتيجي آخر منفذ بحري للميليشيات الحوثية يمدّها بالسلاح القادم من إيران.