كريتر نت – متابعات
مع تصاعد الحرب في غزة وتوتر الجبهة اللبنانية، تفتح إسرائيل جبهة جديدة في اليمن، عبر غارة جوية على صنعاء استهدفت مسؤولين حوثيين.
هذا التصعيد ينذر بتوسّع خطير للصراع، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الحرب الإسرائيلية تتجه نحو مرحلة إقليمية أوسع تشمل ثلاث جبهات مشتعلة في آن واحد.
ورغم الحروب المفتوحة في غزة والتوترات المستمرة على الجبهة اللبنانية، يبدو أن إسرائيل بصدد فتح جبهة جديدة هذه المرة في اليمن مع تصعيد خطير ضد جماعة الحوثي.
وتشير الغارة الجوية التي شنّتها إسرائيل على صنعاء في الثامن والعشرين من أغسطس الماضي، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 12 مسؤولا في الحكومة الخاضعة للحوثيين، من بينهم رئيس الوزراء، إلى مرحلة جديدة من المواجهة، تمتد بعيدا عن خطوط الصراع التقليدية.
ولم يكن التصعيد الإسرائيلي ضد الحوثيين مفاجئا بالكامل، فمنذ أواخر 2023، نفذت الجماعة المدعومة من إيران هجمات صاروخية وبطائرات مسيّرة ضد إسرائيل، بالإضافة إلى استهداف سفن تجارية مرتبطة بها في البحر الأحمر.
وقد جاء الرد الإسرائيلي بعد أشهر من التريث، حين تسببت إحدى الهجمات الحوثية في مقتل مدني إسرائيلي في يوليو 2024.
ومنذ ذلك الحين، شنت تل أبيب غارات متعددة استهدفت بنى تحتية في الحديدة وصنعاء، في محاولة للردع وإضعاف قدرات الجماعة.
وعلى الرغم من أن الضربة الجوية على صنعاء كانت مؤثرة من الناحية الرمزية، فإنها لم تستهدف القيادة العسكرية الفعلية للحوثيين. فالقتلى كانوا في الغالب شخصيات سياسية وتكنوقراطية لا تنتمي بالضرورة إلى الجسم العقائدي للجماعة.
ومن هنا، يرى مراقبون أن إسرائيل قضت على “حكومة شكلية” لا تمثل فعليا قيادة القرار الحوثي، في وقت كان يمكن أن يلعب بعض هؤلاء دورا في أي تسوية مستقبلية.
وفي المقابل، استغل الحوثيون الضربة لتكثيف قمعهم الداخلي، بحجة ملاحقة “الجواسيس”، حيث شنوا مداهمات واعتقالات طالت حتى موظفي الأمم المتحدة في صنعاء.
ورد الحوثيين لم يأت فقط على شكل بيانات، ففي الأول من سبتمبر الجاري، استهدفوا ناقلة إسرائيلية في البحر الأحمر بالقرب من ميناء ينبع السعودي، وهو تطور ينذر بخطر توسع الهجمات إلى مناطق لم تكن في مرمى نيرانهم سابقا، ما يهدد مباشرة صادرات الطاقة السعودية وأمن الملاحة الدولية.
وفي اليوم التالي، أعلن الحوثيون عن هجوم جديد بطائرة مسيرة وصاروخ على سفينة شحن ليبيرية شمال البحر الأحمر، ما يشير إلى رغبة في إبقاء الجبهة البحرية مشتعلة، وربما توسيع رقعة الاشتباك إلى مناطق جديدة حساسة دوليا.
ورغم الخطاب العسكري المتصلب لدى الجانبين، يواجه كل منهما قيودا ميدانية حقيقية. فإسرائيل، وإن بدت عازمة على توسيع دائرة ضرباتها، فإن استمرار عملياتها في اليمن يفرض تحديات لوجستية ضخمة، ناهيك عن الضغط المالي والسياسي الذي تعانيه داخليا، في ظل حرب طويلة الأمد في غزة وجبهة متوترة في الشمال مع حزب الله.
وأما الحوثيون، فإن استمرار استهدافهم قد يؤدي إلى تفكيك شبكاتهم اللوجستية ويضعف قبضتهم على مناطق الشمال، ولكن هذا السيناريو ليس محسوما، نظرا لضعف وتشرذم خصومهم في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، وعدم قدرتهم على ملء الفراغ.
ويحمل التحوّل اللافت في استهداف سفن قرب السواحل السعودية رسالة مزدوجة: أولا، أن الحوثيين على استعداد لتوسيع نطاق عملياتهم البحرية.
وثانيا، أن اتفاق التهدئة الهش بينهم وبين الرياض قد يكون على وشك الانهيار، خاصة إذا استمرت الهجمات الإسرائيلية وبدت وكأنها تتم بتنسيق غير مباشر مع السعودية أو عبر أجوائها.
ويشير الخطاب الإسرائيلي إلى حملة طويلة ضد الحوثيين، في حين تهدد الجماعة بردود غير محدودة.
ويهدد هذا السيناريو بجعل اليمن ساحة حرب جديدة في صراع إقليمي يتسع، وسط انقسامات عربية، ومخاطر كبيرة على أمن الطاقة والتجارة العالمية في البحر الأحمر.
ولم يعد الصراع بين إسرائيل والحوثيين هامشيا بل أصبح جبهة ناشئة تحمل في طياتها كل عناصر الانفجار الإقليمي: تحالفات عابرة للحدود، مصالح دولية كبرى، هشاشة وقف إطلاق النار، واستعداد جماعة عقائدية مثل الحوثيين للمواجهة حتى الرمق الأخير.
وما يجري في اليمن قد لا يبقى محصورا هناك، بل قد يكون تمهيدا لمرحلة جديدة من الحرب الإسرائيلية، هذه المرة على ثلاث جبهات.
ولم يكن اسم جماعة الحوثي يُطرح تقليديا كطرف مباشر في المواجهات العسكرية مع إسرائيل.
ولسنوات، اكتفى الحوثيون بخطاب التضامن مع الفلسطينيين، مستخدمين شعارات معروفة مثل “الموت لإسرائيل”، و”النصرة لفلسطين”، في خطاب تعبوي يخدم سياقاتهم الداخلية والإقليمية، من دون أن يترافق ذلك مع تحرك عملي على الأرض أو تبنّ لهجمات عابرة للحدود.
لكن منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، حدث تحوّل لافت في هذا الدور، إذ انتقلت الجماعة من مربع الخطاب إلى مربع الفعل العسكري.
ومع اتساع رقعة المواجهة الإقليمية التي أعقبت الحرب في غزة، بدا أن الحوثيين قرروا، بتنسيق أو بإشارة من طهران، الانخراط بفاعلية في المواجهة المفتوحة مع إسرائيل، ضمن ما بات يُعرف بـ”وحدة الجبهات” في محور المقاومة.
وقد تجسّد هذا التحوّل في تنفيذ الجماعة هجمات مباشرة ضد أهداف إسرائيلية، أو يُعتقد بارتباطها بإسرائيل، باستخدام الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة بعيدة المدى.
ولم تقتصر العمليات على المجال الجوي، بل امتدّت إلى المجال البحري، حيث بدأت الجماعة باستهداف سفن شحن تجارية في البحر الأحمر، في عمليات وصفتها بأنها “ردّ على العدوان الإسرائيلي في غزة”.
وما يجعل هذا التحوّل خطيرا ليس فقط في دلالته الرمزية، بل أيضا في أبعاده الإستراتيجية.
فللمرة الأولى، تُفتح جبهة نشطة من اليمن باتجاه إسرائيل، في وقت تشتعل فيه جبهتا غزة وجنوب لبنان.
ويشير هذا إلى نوع من التزام جماعي من أطراف المحور: إيران، حزب الله، الحوثيين، وربما جماعات أخرى في العراق وسوريا، بالردّ على إسرائيل بشكل متزامن أو متبادل، في إطار ما يشبه “عقيدة الرد المشترك” التي تهدف إلى تشتيت قدرات إسرائيل وإرغامها على القتال على أكثر من جبهة في وقت واحد.
ومع تطور الهجمات، أصبحت إسرائيل تتعامل مع الحوثيين باعتبارهم طرفا عسكريا فاعلا ومباشرا، وليس مجرد امتداد رمزي لمحور المقاومة.
واتهمت تل أبيب الجماعة بتنفيذ هجمات تهدّد أمنها القومي وممرات التجارة الإسرائيلية، خاصة بعد استهداف سفن شحن مملوكة أو مستأجرة من قبل شركات إسرائيلية أو تحمل العلم الإسرائيلي في البحر الأحمر.
ثم جاء التطور الأخطر، حين استهدفت هجمات الحوثيين مناطق داخل إسرائيل نفسها، وهو ما عدّته تل أبيب تجاوزا للخطوط الحمراء يستوجب الرد.
وغيّر هذا التبدّل في دينامية العلاقة بين الحوثيين وإسرائيل موقع الجماعة من حليف بعيد في محور المقاومة إلى طرف مباشر في معادلة الردع، وربما التهديد.
وقد أدّى ذلك إلى إدراج الجماعة على أجندة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وبدء عمليات رصد ومتابعة مكثفة لتحركاتها، خصوصا في ما يتعلق بترسانتها الصاروخية وشبكاتها البحرية، بل وتوسيع نطاق العمليات الإسرائيلية لتشمل الأراضي اليمنية، كما ظهر في الغارة الجوية على صنعاء في أغسطس 2024.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا التورط العسكري يُعطي الحوثيين بعدا جديدا في المشهد الإقليمي.
فمن جماعة محلية ذات أهداف سياسية يمنية، إلى فاعل إقليمي يحاول لعب دور رمزي وسياسي يتجاوز جغرافيته.
وتطمح الجماعة، من خلال المواجهة مع إسرائيل، إلى تعزيز موقعها السياسي والديني داخل اليمن، وفي العالمين العربي والإسلامي، باعتبارها “الجهة الوحيدة في شبه الجزيرة العربية التي تواجه إسرائيل عسكريا”.
غير أن هذا التصعيد لا يخلو من مخاطر، فالتحول إلى جبهة مواجهة مفتوحة مع إسرائيل قد يؤدي إلى ضربات إسرائيلية متواصلة داخل العمق اليمني، ويعرض الجماعة لخسائر في بنيتها التحتية، كما أنه قد يُحرج علاقاتها مع بعض الأطراف الإقليمية، وخصوصا السعودية، التي تحاول الحفاظ على هدنة هشة بعد سنوات من الحرب.
ويعد انتقال الحوثيين من خطاب التضامن إلى الاشتباك العسكري مع إسرائيل تطورا نوعيا في مسار الجماعة ودورها الإقليمي، لكنه يفتح الباب أيضا على سيناريوهات تصعيد غير محسوبة، قد لا تظل محصورة في ساحات الوكلاء، بل قد تقرّب الصراع من مواجهة بين الدول نفسها، في سياق إقليمي شديد الهشاشة والتعقيد.