القاهرة – أحمد جمال
يشهد سوق الدواء في مصر اضطرابات حادة بسبب ارتفاع الأسعار ونقص السيولة، ما أدى إلى انتشار السوق السوداء والدواء المغشوش، وسط معاناة المرضى وتراجع القدرة الشرائية. ورغم نمو المبيعات تواجه الصيدليات خسائر، وتتعثر جهود التخلص من الأدوية منتهية الصلاحية، وبينما تغطي الصناعة المحلية 82 في المئة من السوق، تظل الفجوة قائمة بين وفرة الدواء وسعره المناسب للمواطن.
وبدأ تأثير ارتفاع أسعار الدواء في مصر يلقي بظلاله على المرضى وآليات العمل داخل السوق المحلي، إذ قادت المراجعة الدورية لقيمة العقاقير المصنوعة محليا كل ثلاثة أشهر إلى نمو واضح في المبيعات، وفي المقابل زادت أوجاع البسطاء وانتشر ما يسمى بـ”السوق السوداء” للأدوية، وبيعها على أرصفة الطرق ومواقع التواصل الاجتماعي، في ظل عثرات تواجه هيئة الدواء الحكومية في التخلص من الأدوية منتهية الصلاحية.
كشف سكرتير عام شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية محمد شاهين عن مطالبة الشركات وشعبة الأدوية برفع أسعار ألف صنف دوائي، معتبرا أن الزيادات الأخيرة التي جرى إقرارها بعد تحرير سعر صرف الجنيه منذ نحو عامين لم تعد كافية في ظل الأعباء الجديدة، لافتا إلى أن مطالبهم تتضمن زيادة قيمتها بـ10 في المئة فقط.
ومن الأسباب التي تضغط على القطاع وتدفعه إلى المطالبة بتحريك الأسعار، رفع الدولة الحد الأدنى للأجور وضرورة زيادة أجور العاملين، وارتفاع أسعار الوقود والكهرباء بنسبة 15 في المئة، وقد تزداد السلعتين مرة أخرى قريبا.
وزادت أسعار ثلاثة آلاف صنف دوائي في مصر منذ تحرير سعر الجنيه، وجرى إقرارها في النصف الثاني من العام الماضي بمعدلات تراوحت بين 30 و45 في المئة، بحسب هيئة الدواء المصرية، في وقت مازالت هناك شكاوى من نقص بعض أصناف الأدوية المرتبطة بأمراض مثل السرطان والقلب وسيولة الدم.
تقشف علاجي
يشير كريم إبراهيم، صاحب أحد الصيدليات بمنطقة فيصل الشعبية بالجيزة المجاورة للقاهرة، إلى أن رفع أسعار الدواء مرات على مدار العام الماضي، ساهم في توفير أصناف عدة لم تكن متوفرة، بينها أدوية لأمراض السكري والضغط والكلى، غير أن الأزمة الحالية تكمن في أن البعض من المواطنين يسألون عن سعر الدواء قبل شرائه للتأكد إذا كانوا قادرين على دفع ثمنه من عدمه، وأحيانا يتم اللجوء إلى الحصول على بعض الأدوية وتقسيم علبة العقاقير الواحدة ليحصل الشخص على نصفها.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن نمو سوق شركات الدواء لم ينعكس إيجابا على سوق بيعها في مصر، وهناك خسائر فادحة لصيدليات كانت تحقق أرباحا جيدة تأثرا بالقدرة الشرائية ووجود منافذ أخرى يمكن الوصول من خلالها إلى الدواء خارج الإطار الشرعي لبيعها من الصيدلية، على مواقع التواصل الاجتماعي والأرصفة ومندوبي توصيل الأدوية إلى المنزل، ويعملون لصالح تجار تدوير الدواء منتهي الصلاحية.
وأطلقت هيئة الدواء مبادرة للتخلص من الأدوية منتهية الصلاحية، بالشراكة مع مصنعين وموزعين وصيدليات، دخلت حيز التنفيذ في بداية مارس الماضي، عندما أصدرت هيئة الدواء قرارا يلزم الشركات العاملة في سوق الدواء بأن تقبل من الصيدليات والمستودعات مرتجعات الأدوية منتهية الصلاحية التي أنتجتها أو استوردتها وبأصغر وحدات الإنتاج، خلال 90 يوما.
وأخفقت المبادرة في تحقيق أهدافها، لأن المهلة التي حددتها هيئة الدواء المصرية (حكومية) للتخلص من الأدوية منتهية الصلاحية في الصيدليات انتهت دون القدرة على سحب سوى ربع حجم الأدوية التي كان من المفترض إعدامها وتسليمها لشركات التوزيع والإنتاج بسبب مشكلات تقنية وعدم وجود أدوات رقابية تضمن تسلم الأدوية.
بلغت مبيعات الأدوية في مصر نحو 154.7 مليار جنيه (الدولار= 49.5 جنيه) خلال عام 2023، بزيادة 25 في المئة، مقارنة بعام 2022، فيما تراجعت الوحدات المبيعة بنسبة 7.3 في المئة إلى 3 مليارات عبوة خلال العام نفسه.
وحققت شركات الأدوية مبيعات بلغت 214 مليار جنيه في العام الماضي، وتتوقع شعبة الدواء باتحاد الصناعات المصرية أن تتراوح مبيعات الأدوية هذا العام بين 250 و260 مليار جنيه بمعدل نمو يتراوح بين 16 و21 في المئة.
ظواهر مجتمعية سلبية
أدوية فوق طاقة المرضى
قال مستشار المركز المصري للحق في الدواء (حقوقي) محمد عزالعرب إن ارتفاع أسعار الدواء تسبب في تفشي ظواهر بحاجة إلى تعامل فاعل من المجتمع المدني ووسائل الإعلام والجهات الحكومية، حيث ترتب عليها انتشار بيع الدواء في السوق السوداء بأسعار مرتفعة، مع انتشار الفضائيات المشبوهة التي تروج لها، والدواء المصرح باستعماله هو الحاصل على تسجيل هيئة الدواء ومواصفاته مطابقة تماما للمادة الفعالة الأساسية.
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى وجود مشكلة أخرى تتعلق بالأدوية المسجلة لدى هيئة الدواء، لكنها منتهية الصلاحية وتخضع لإعادة التدوير داخل مصانع ومخازن غير مرخصة ويتم وضع عليها ملصقات جديدة بتواريخ مزيفة عقب انتهاء صلاحيتها، ما يخضعها للغش التجاري، ويتم بيع هذه الأدوية على نطاق أوسع في مناطق شعبية لا تخضع لرقابة من جانب التفتيش الصيدلي والجهات المحلية التابعة لتلك المناطق.
وأوضح أن تداول الدواء المغشوش ليس ظاهرة مصرية فحسب، لكنه ينتشر في دول عدة، والأزمة في تداوله على نطاق أوسع في مصر، ويشكل 15 في المئة من إجمالي حجم السوق، ما يتطلب جهود توعية وانضباطا رقابيا كي لا تتسع الظاهرة ما يؤثر على سوق الدواء المصري وتعرض المرضى لمشكلات صحية بعد تناولهم عقاقير بعينها.
وما يدور في سوق الدواء لا ينعكس على نمو صناعة الأدوية المحلية، بخاصة وأن الشركات تحصل على مواصفات التصنيع الجيد عالميا لتتمكن من التصدير ولها تواجد مهم في بعض الأسواق الأفريقية والأوروبية.
وشهدت سمعة الدواء المصري طفرة مع تقديم علاج مصري لعلاج فايروس سي، نجح في تحقيق معدل شفاء وصل إلى 95 في المئة، وفتح مجالات للاستثمار في السوق المصري.
وحسب تقديرات شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية وغرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات المصرية، تضم السوق المصرية نحو 180 مصنع دواء و1200 شركة أدوية مصنعة لدى الغير، وتنتج الشركات المصرية 17 ألف مستحضر دوائي، ويقدر سوق الدواء في مصر بنحو 330 مليار جنيه سنويا.
فجوة هيكلية
تُباع على الأرصفة ومواقع التواصل
هناك فجوة بين زيادة الاستثمارات الموجهة لتصنيع الدواء المحلي، ويغطي 82 في المئة من إجمالي الأدوية في السوق المصري، وبين طبيعية توفيرها بسعر مناسب للمواطنين، وتوجه شركات الأدوية والتوزيع مصروفاتها على نحو أكبر باتجاه الدعاية، وتشكل 35 في المئة من إجمالي قيمة تصنيع الدواء، في حين أن المادة الخام تتكلف 15 في المئة بخلاف تكاليف الصناعة والعمالة، ما يجعلها تميل لزيادة الأسعار.
ويشكو مصريون من العلاقة غير السوية بين شركات الأدوية والأطباء، إذ تغدق الأولى على الأطباء لضمان توجيه المرضى نحو مستحضرات دوائية بعينيها، ويدخل ذلك في إطار الدعاية وحفلات ومؤتمرات ترفيهية تنظمها شركات الأدوية.
أوضح محمد عزالعرب في حديثه لـ”العرب” أن اللجنة التنفيذية لتسعير الدواء التي كانت تتبع وزارة الصحة وانتقلت تبعيتها إلى هيئة الدواء، تنفذ ما يسمى بالمعايير المرجعية لتحديد سعر الدواء، وتتم مقارنة سعره في مصر بأسعاره في 36 دولة، وكانت هناك مطالب لتكون دول مثل الهند وبنغلاديش ضمن هذه المقارنات لما لديها من سمعة جيدة في وجود أدوية منخفضة التكاليف، وثمة طرق أخرى تتمثل في تحديد قيمة التصنيع ومنح هامش ربح للشركة المصنعة ومن هنا يتم تحديد سعر الدواء.
وذكر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء مؤخرا أنَّ مصر تمتلك أكبر سوق دوائي في أفريقيا بقيمة 6.2 مليار دولار، وهيئة الدواء المصرية كشفت حجم ومقدرات سوق الدواء، حيث تتجاوز مبيعات الشركات المصرية سنويا 3.5 مليار عبوة، مستحوذة على أكثر من 27 في المئة من حجم السوق الأفريقية.
وأكد رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية علي عوف أن سوق الدواء يعاني أزمة سيولة غير مسبوقة بسبب الأزمة المتصاعدة بين عدد من شركات الأدوية وهيئة الشراء الموحد (حكومية مسؤولة عن توريد الأدوية إلى المستشفيات العامة)، إذ إن إجمالي ميديوناتها بلغ 30 مليار جنيه، ومرات تحصل الشركات على شيكات لصرفها من البنوك وتفاجأ بأنها بلا رصيد، ما ينعكس سلبا على دوران عجلة الإنتاج.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن هذه الأزمة تركت تأثيرها على نواقص بعض الأدوية حاليا، وتلقى استغاثات تؤكد عودة قوائم الانتظار مرة أخرى ووجود نقص في بعض الأدوية، خاصة أدوية الأورام، والمناعة، والهرمونات، والمفاصل الصناعية، والأدوية المستخدمة قبل وبعد زراعة الكلى والكبد.
ولفت إلى أن الدواء سلعة لها تكلفة، ومعظم مدخلاتها بالعملات الأجنبية، والعمالة تعيش في مجتمع مصري يواجه مشكلات ارتفاع معدلات التضخم، وعدم قدرة المريض على شراء الدواء مسؤولية الحكومة وليس الشركات الخاصة، لأن الحكومة لا تدعم مصانع الأدوية بالكهرباء أو الغاز، وحال استمر الوضع الراهن في عملية رفع أسعار الأدوية والسيولة المالية فإن سوق الدواء سيتعرض للانهيار في أي لحظة.
المصدر : العرب