كريتر نت – متابعات
أجبرت الضغوط الإسرائيلية والدولية الرئيس السوري أحمد الشرع على الانسحاب من معقل الدروز في السويداء، ما يعكس هشاشة السلطة الانتقالية وسط توازن قوى إقليمي معقد. ويأتي هذا الانسحاب في ظل تحديات داخلية كبيرة، ما يزيد من صعوبة فرض الاستقرار والسيادة في سوريا.
وتشكل أحداث السويداء الأخيرة نقطة تحول جوهرية في المشهد السوري، حيث أجبرت الضغوط العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب الضغوط الداخلية والدبلوماسية الدولية، الرئيس السوري أحمد الشرع على الانسحاب من معقل الدروز في جنوب البلاد، في محاولة لتهدئة التصعيد المتفاقم الذي أودى بحياة المئات.
ولا يعكس هذا الانسحاب مجرد خطوة عسكرية، بل يعكس واقعًا جديدًا من هشاشة السلطة الانتقالية التي يقودها الشرع، وسط توازن قوى إقليمي يفرض قيودًا صارمة على تحركاتها، لاسيما في مواجهة التهديد الإسرائيلي المتزايد.
وتكشف هذه التطورات أيضا عن تحديات معقدة داخلية، تتمثل في ضعف السيطرة على الفصائل المسلحة المتعددة والتوترات الطائفية التي تعصف بالمناطق المتنازع عليها، ما يضعف فرص الوحدة الوطنية ويزيد من تعقيد المشهد السياسي السوري.
ويقول محللون إن هذه التحديات تبرز الحاجة إلى إستراتيجيات مرنة تجمع بين ضبط الأوضاع الأمنية داخليًا وإدارة حوار إقليمي دقيق يراعي الواقع الميداني والضغوط الدولية، من أجل بناء قاعدة صلبة للسلطة الانتقالية وسط بيئة متشابكة ومتحولة.
وفي خطاب ألقاه فجر الخميس، برّر الشرع قراره برغبته في تجنّب المواجهة مع إسرائيل التي يتهمها بالعمل منذ سقوط بشار الأسد أواخر عام 2024 على زعزعة استقرار بلاده الساعية للتعافي من تداعيات النزاع الذي بدأ في 2011.
وأشاد الشرع في خطابه الخميس بـ”التدخّل الفعّال للوساطة الأميركية والعربية والتركية التي أنقذت المنطقة من مصير مجهول” بُعيد غارات إسرائيلية على مقر هيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسي في دمشق.
وبعد أربعة أيام من أعمال العنف في محافظة السويداء، والتي أودت بنحو 600 قتيل، أعربت واشنطن عن موقف حازم، داعية قوات الحكومة السورية إلى الانسحاب من منطقة النزاع في جنوب البلاد بهدف تهدئة التوتر مع إسرائيل.
ويعتبر الباحث السياسي المتخصص في الدراسات السورية والإسرائيلية في جامعة تورنتو الكندية جمال منصور أن “الانسحاب فُرِض على السلطات في ظل عدم توازن القوى” مقارنة مع إسرائيل.
ويضيف منصور أن “الأميركيين ضغطوا بهذا الاتجاه والإسرائيليين ضغطوا بهذا الاتجاه، فتراجعت السلطة مرغمة نتيجة أن موقفها بالسويداء لم يكن بهذه القوة ولم تكن قادرة على الاحتفاظ بالأرض في السويداء دون ثمن باهظ جدا يفرض عليها تدخلا إسرائيليا ثانيا.”
التهديدات الإسرائيلية
خياراتي كانت محدودة لتجنّب حرب مفتوحة مع إسرائيل، والوساطة الأميركية والعربية والتركية أنقذت المنطقة من مصير مجهول
أقرّ الشرع بأنّ خياراته كانت محدودة لتجنّب “الحرب المفتوحة” مع إسرائيل. وبعد دخول القوات الحكومية إلى محافظة السويداء، شنّت إسرائيل غارات واسعة على المحافظة وعلى مقرّ هيئة الأركان في دمشق وقرب القصر الرئاسي.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن “وقف إطلاق النار” في سوريا “انتزع بالقوة، لا من خلال المطالب أو الاسترحام.”
وأمام الضغط العسكري الإسرائيلي يقول مصدر دبلوماسي غربي،اشترط عدم كشف هويته، إن “الشرع مدرك للوضع وهو واقعي،” و”يعرف أن سوريا في موقع ضعيف وأن الخيار الأفضل هو التوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين.”
ويعتبر مسؤول ملف العراق وسوريا ولبنان في مجموعة الأزمات الدولية هايكو فيمن أن تراجع الشرع بعد الهجمات الإسرائيلية يعني أنه “يخطو خطوة إضافية نحو قبول واقع مفاده أن إسرائيل تعرض قوتها على أعتاب دمشق.”
ومنذ توليه السلطة الانتقالية عقب الإطاحة ببشار الأسد أكد الشرع أن سوريا لا ترغب في تصعيد أو صراع مع جيرانها.
وأقرّت السلطات السورية بوجود مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، التي تحتلّ أجزاء واسعة من هضبة الجولان وتوغلت في مناطق جديدة خلال الأشهر الماضية، تتمحور حول الوضع الأمني.
ويرى منصور أن أحداث السويداء “لن تؤثر على مسار التفاوض” لكنها “تضع إسرائيل في موقع أفضل وبشروط تفاوضية أكثر قوة.”
وفي ما يتعلق بالحسابات الإسرائيلية مع سوريا، يستبعد المصدر الدبلوماسي التوصل إلى اتفاق مشابه للاتفاقيات الإبراهيمية، لكنه يرى أنه يمكن للدولة العبرية التوصل إلى ترتيب أمني مع سوريا بشروط مناسبة لها.
الضغوط الداخلية
فصيل مسلح على أساس طائفي
بعد 14 عاما من النزاع يريد الشرع أن يبقي قاعدته الشعبية التي عانت جراء القمع والنزوح خلال فترة حكم الأسد راضية، مع حرصه على أن يبقي البلاد موحدة في الوقت نفسه. لكن الأحداث التي حصلت في السويداء، وبقاء المحافظة نتيجة لها خارج سلطته الأمنية، قوّضت تلك المساعي التي تلقّت ضربة إثر أعمال العنف ذات الطابع الطائفي التي طالت الأقلية العلوية وأسفرت عن مقتل أكثر من 1700 شخص.
وفرضت تلك الأحداث تشككا في قدرة الشرع على ضبط فصائل مختلفة، بينها مجموعات جهادية متشددة تثير قلق المجتمع الدولي وطالبت واشنطن الشرع بدعوتها إلى المغادرة.
ويشرح منصور أن ما حصل “يكشف ضعف سلطة الشرع،” مشيرا إلى أن “التحدي بالنسبة إليه هو مدى قدرته على ترسيخ سلطته وقيادته ضمن إطار فصائل ليست متماهية (…) وأن يضبط الجهاز الأمني.”
وتتداخل أحداث السويداء الأخيرة مع جملة من العوامل التاريخية والجغرافية والسياسية التي تجعل من الجنوب السوري منطقة شديدة التعقيد، يصعب حسمها عسكريًا أو إداريًا. فالسويداء، التي يغلب عليها الطابع الديمغرافي الدرزي، لطالما تمسكت بنوع من الخصوصية السياسية والاجتماعية، ورفضت الانخراط الكلي في الصراعات المسلحة التي عصفت بسوريا منذ 2011، فطورت نمطًا شبه ذاتي من الحوكمة المحلية، بقيادة وجهاء دينيين وزعامات عشائرية، منحها استقلالًا نسبيًا عن النظام والمعارضة على حد السواء.
وهذا التوازن الدقيق في السويداء جعل أي محاولة لفرض سلطة مركزية بالقوة، سواء من قبل دمشق أو من أطراف أخرى، بمثابة استفزاز وجودي لسكانها، وهو ما يفسر تصاعد المواجهات مع قوات أحمد الشرع بعد دخولها المدينة.
ومع أن الشرع سعى لتبرير انسحابه برغبة في تجنب الصدام مع إسرائيل، فإن الحسابات الداخلية لا تقل وزنًا، خصوصًا في ظل تراجع الثقة الشعبية بعد أحداث العنف التي مسّت الأقلية العلوية وأثارت توجسًا لدى باقي المكونات من مشروع السلطة الانتقالية.
وفي الوقت نفسه لا يمكن عزل ما جرى في السويداء عن المشهد الإقليمي الأوسع، فجنوب سوريا بات منذ سنوات ساحةً مفتوحةً لتقاطع المصالح الدولية: إسرائيل تراقب أي تحرك ميداني على حدودها وترد بقوة على ما تعتبره اختراقًا أمنيًا، كما حصل خلال الضربات التي استهدفت دمشق مؤخرًا.
وتحتفظ الولايات المتحدة، من جهتها، بوجود عسكري في قاعدة التنف وتدير تنسيقًا أمنيًا حساسًا في البادية، وتسعى إلى منع عودة النظام الكامل إلى الجنوب خشية تعاظم النفوذ الإيراني. أما روسيا فتميل إلى تبني سياسة التهدئة في تلك المنطقة، إدراكًا منها لتشابك القوى ولصعوبة فرض واقع جديد بالقوة.
وعلى مستوى الشرعية يسلط انسحاب الشرع من السويداء الضوء على التحدي الأكبر الذي يواجهه: كيف يمكن له أن يقدم نفسه كقائد انتقالي جامع، في وقت تتآكل فيه سلطته في مناطق متعددة، وتتعزز النزعات الانفصالية أو الاستقلالية، لاسيما لدى الأكراد في الشمال الشرقي الذين رأوا في أحداث السويداء دليلاً إضافيًا على غياب رؤية شاملة تضمن لهم شراكة حقيقية في مستقبل سوريا.
وفي الوقت نفسه لا يزال الأكراد في شمال شرق البلاد متمسكين بإدارتهم الذاتية ويطالبون بحكم لامركزي.
وحضّ المسؤول الكردي البارز بدران جيا كورد الحكومة الانتقالية على “مراجعة” نهجها في التعامل مع المكونات السورية بعد أحداث السويداء.
ويرى فيمن أنه في ضوء تلك الأحداث بات موقف الأكراد أكثر قوة. ويقول إن “فكرة دمج شمال شرق سوريا أصبحت الآن موضع شك كبير،” فقد أعطت دمشق للأكراد “العديد من الأسباب ليكونوا حذرين جدا من أي شكل من أشكال الاندماج.”
وهكذا يتضح أن ما جرى في السويداء ليس مجرد تراجع تكتيكي تحت الضغط الإسرائيلي، بل تعبير عن مأزق مركب تعيشه السلطة الانتقالية بين قيود الخارج وتشظيات الداخل، ويكشف عن هشاشة المشروع السياسي الذي يحاول الشرع بناءه فوق خرائط متداخلة من الحساسيات الطائفية والمصالح الدولية والصراعات المحلية التي لم تنتهِ بعد.