قاسم المحبشي
كاتب يمني
أدرك فلاسفة عصر النهضة أنّه لا سبيل إلى تحرير الإنسان إلّا بهدم تلك الجسور الفلسفية المنطقية بين “الحاس” من جهة العلم والفن، وبين “المحسوس” من جهة الطبيعة والأساطير، وهدم جسر اللّاهوت بين الله والإنسان، أي تحرير الإنسان من مشاعر الخوف والرعب والضعف والعجز والتفاهة والسقوط، ووهم إثم وخطيئة؛ تستدعيان تدخل الكنيسة وسيطاً، يقدم له كل فروض الولاء والطاعة؛ سعياً هاذياً وراء الخلاص.
وينتقد مكيافيللي الكنسية والتصور اللّاهوتي عن الإنسان والتاريخ والدولة بقوله: إنّ المسيحية “مجدت الرجال المتواضعين الميالين إلى التأمل والخمول والتبدل، لا رجال العمل والفعل والنشاط”.
وعلى الضد من هذا التصور، يعلن ميكافللي أنّ “الطبيعة البشرية محكومة بمبدأ ثابت، وأنّ عالم الكائنات البشرية هو نفسه في كل زمان ومكان، إنّها طبيعة الإنسان الأصلية في الحب والخوف والاعتقاد، فإذا ما عرف الأمير المصلح الطبيعة البشرية، استطاع التحكم بها والسيطرة عليها.
وكان كبار فلاسفة القانون الطبيعي، مثل: (هوجو جروتيوس)، و(جان بودان)، و(صموئيل بيفندورق)، وغيرهم، كانوا كلهم يعملون على تنويعات مختلفة لهذه الرؤية البصيرة البسيطة، وهي أنّ قوانين الطبيعة التي تحكم السلوك الإنساني، هي أيضاً قوانين الرب.
ويُعدّ (جون ) أكثر أهمية من (مكيافيللي)، إذ أنّه حاول استبدال نظرية جديدة للتاريخ العالمي بالنظرة التي سادت العصور الوسطى، ورفض نظرية العصر الذهبي الماضي وانحطاط الإنسان اللاحق، وأكد التقدم والتطور التاريخي، فالمشهد الإنساني قد تغير تغيراً هائلاً منذ عصر الإنسان البدائي: “ولو أمكن استعادة ما يُسمّى بالعصر الذهبي، ومقارنته بعصرنا، لعددناه عصراً جديداً”.
ومع القرن السابع عشر أخذت تترسخ الحداثة الأوروبية، وذلك باتساع سلطة العلم التي أقرّ بها معظم فلاسفة الحقبة الحديثة، وهي شيء مختلف غاية الاختلاف عن سلطة الكنيسة، من حيث كونها سلطة عقلية وليست سلطة حكومية أو “متعالية”. فليس ثمّة عقوبات تقع على من ينبذونها، كما أنّ نفوذ العلم التطبيقي قد تغلغل عند الفلاسفة على نحو متزايد، وأفضى التحرر من سلطة الكنيسة إلى النزعة الفردية حتى بلوغ حد الفوضوية، وذلك ما يُسمّى بعصر الثورة المنهجية، وما الثورة المنهجية التي رافقت العلم الطبيعي إلّا ثورة شرعية؛ للتخلص من المنطق عامة، والمنطق الأرسطي خاصة، والقياس على وجه الخصوص.
ويلخص أرنولد توينبي تلك الثورة النقدية المنهجية الحاسمة بقوله: “إنّ المدنية الغربية مرّ بها بين (1563-1736م) ثورة عقلية وروحية، أكبر من أيّ ثورة مرّ بها المجتمع الأوروبي، منذ أن ظهر بين أنقاض الإمبراطورية الرومانية، وإنّ المفكرين الغربيين الآن أحجموا عن قبول إرث الأجداد على أنّه أمر موثوق به، لقد قرروا أنّهم من الآن وصاعداً يضعون عقائدهم الموروثة على المحك، وذلك عن طريق فحص الظاهر فحصاً مستقلاً، وأنّهم سيتبعون تفكيرهم الخاص، وأيضاً تواضعوا على العيش بسلام مع الأقليات أصحاب البدع. ولم يعودوا يشعرون بأنّهم ملزمون أن يفرضوا عقيدة الأكثرية أو طقوسها بالقوة”.
إنّ ذلك القرن يُعدّ انتصاراً حاسماً للحداثة والإنسان الحديث، ويمكن النظر إليه بمثابة قطيعة إبستمولوجية مع القرون الماضية، فمفكرو أوروبا الكبار حينئذ قرروا أن يمسحوا اللوحة، وأن يبدؤوا بالكتابة عنها من جديد، وهذا ما فعله فرانسيس بيكون (1561-1626م) في “الأرجانون الجديد” عام 1620 بنقده الأوهام الأربعة وإعادة المعرفة والعلم والثقافة إلى حيث ينبغي أن تكون، إلى الطبيعة إلى التجربة الحسية، حيث إنّ أهمية بيكون تكمن في كونه أكد أهمية المعرفة في تحسين حياة المجتمع، وأوضح الأدوات المنهجية للحصول على المعرفة العلمية النافعة.
وفي هذا السياق يأتي رينيه ديكارت (1596-1650م) الذي عدّ الإنسان وعقله معيار كل معرفة ممكنة، “أنا أفكر إذن أنا موجود”، لقد كان مطمح ديكارت كما كان مطمح العصر المنهجي كله، هو البحث عن المعرفة اليقينية، الواضحة الثابتة المتميزة، وكان منهج الشك هو الطريق إلى اليقين، اليقين الرياضي الطبيعي الفطري، الذي بحث عنه أبو حامد الغزالي (450-505هـ)، في المُنقذ من الضلال.
وإذا كانت الحركة الثقافية التي طبعت التفكير في القرن السابع عشر، قد ركزت جهودها حول مشكلات التاريخ الطبيعي، ولم تعر أهمية خاصّة لمشكلات التاريخ الإنساني، فإنّ بيكون مثلاً لم يكن يرى في التاريخ إلّا مرآة أرسطو استذكاراً وتسجيلاً للماضي، تسجيلاً يصور الأحداث بحقيقتها وواقعيتها.
وديكارت، وإن كان يعترف بأنّ للتاريخ قيمة تعليمية وتربوية، لكنّه عجز عن البحث في الحقيقة؛ لأنّ الأحداث كما ترد لم تقع في واقع الأمر بالطريقة التي نجدها عليها في سجلات التأريخ، وربما كانت أهمية كل من بيكون وديكارت على صعيد تطور فلسفة التاريخ والمعرفة التاريخية، عامةً، تكمن في كونهما قدّما الأسس المنهجية الجديدة للبحث في الظاهرة التاريخية.
ويمكن تلخيص النتائج البعيدة للثورة النقدية المنهجية التي قاما بها، من نقد الأوهام ونقد التراث والتقاليد والخرافات، وتأكيد قيمة الحاس، والمحسوس، والعقل، وإحلال الاستقراء والتجربة محل الاستدلال والقياس والتفريق بين مناهج العلم واللّاهوت والفلسفة والأخلاق.
وتمهيد الأرض الفكرية من كل شوائب المنطق والانطلاق من جديد بعد مسح اللوح والانطلاق من الواقع الحسي “يولد الإنسان وعقله صفحة بيضاء” حسب جون لوك، والانطلاق من الذات الفطرية عند ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود”، ذلك هو أساس الوضوح والتمييز، وهو نفسه الذي ينزل إلى الجذور الأعمق نحو الميتافيزيقا الشمولية، ويصعد إلى مختلف فروع المعرفة الإنسانية.
وكما أنّ المبدأ القائل: إنّ الهدف الحقيقي للمعرفة هو تحسين الحياة الإنسانية وزيادة سعادة الإنسان وتخفيف معاناته هو النجم الذي اهتدى به بيكون في عمله، كذلك فعل ديكارت حينما أعلن تفوق العقل، وثبات القوانين الطبيعية، منتهجاً طريق الشك الإيجابي الصارم في التحليل والتركيب، والنقض والإبرام، ومن أعطاف هذين الفيلسوفين انطلقت مسيرة الفكر الأوروبي الحديث، ومن فكرهما تشكلت فكرة التقدم التاريخي، وأخذ الفلاسفة يبحثون في الإنسان والتاريخ والحق أمثال: توماس هوبس (1588-1679م) الذي يُعدّ أحد أهم فلاسفة التاريخ الحديث، ولمّا كان يعيش في ظلال الحروب الدينية، مع تأثره بالمنهج التجريبي، فقد توصل إلى أنّ غرائز البشر الطبيعية تؤدي إلى “حرب الكل ضدّ الكل”.
كانت فلسفة ديفيد هيوم (1711-1776م) في المحصلة النهائية ثورة منهجية في فلسفة التاريخ كما تدل عناوين مؤلفاته: مقالة في الطبيعة البشرية، بحث حول الفهم الإنساني، ومحاورات حول الدين الطبيعي، وكتاب تاريخ إنجلترا. وإذا كان النمط الحديث لتصميم وتشكيل المجتمع الناهض قد وجد من يعبّر عنه وعن قواه الرأسمالية الصاعدة والنظر إلى قيمها كأنّها هدف التاريخ، والنظر إلى قوانينها كأنّها قوانين الطبيعة الأبدية، فإنّ الخضوع له ليس أسمى الأوامر الأخلاقية فحسب، بل هو ضمان السعادة على وجه الأرض.
وهذا ما فعله معظم فلاسفة المدرستين التجريبية والعقلية، ومنهم: (جون لوك 1632-1704م) وهو رسول الثورة الإنجليزية 1688م وفيلسوف الليبرالية الجديدة، في كتاباته “مبحث في الفهم الإنساني 1687، ورسالة في التسامح، وكتابه عن التربية، وكتاباته عن الحكومة والعقل الاجتماعي، نقول إذا كان هذا الاتجاه قد وجد أنّ هذا العالم هو أحسـن العوالم، حسـب ليبنتز (1646-1716م)، فإنّ هذه العملية من التطور التاريخي في سياق الممارسة الحية لحركة المجتمع، لم تكن تسير بهذه الصورة الخلابة التي يرويها لنا التاريخ، فمن المعروف أنّه ما أن تكون الأحداث تاريخية حتى تختفي الصلة الحتمية بينها وبين الأفكار التي أفرزتها، ويصعب معرفة حقيقة فكرة من الأفكار من غير العودة إلى السياق التاريخي الذي ولدت فيه، وعبّرت عن حاجة من حاجاته، وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التاريخ هو في الحقيقة تاريخ صراع وحرب وتدافع على الخيرات، فيه فقراء ضعفاء، مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب، هذا التاريخ الذي يدور حول (محور التجارة “الحرب الاحتكار”) هو التاريخ الذي سارت فيه النهضة الأوروبية، الذي تحملت فيه الطبقات البائسة “المصاريف الإضافية” كما يقول ماكس هوركهايمر.
وبهذا المعنى، قال المفكر الفرنسي (مونتين): “ليس باستطاعة أحد أن يربح إلّا ما يخسره الآخر”، إنّ الصراع على الثروات والذهب والربح ونمو التجارة والمدن دفع بعشرات الآلاف من الناس إلى قاع المجتمع حيث البؤس والتشرد والجوع والجهل والخوف وكل الآلام، كانت تلك الحشود البائسة الملقاة على رصيف الرأسمالية الجديدة تمثل الشكل الأول لظهور البروليتاريا الحديثة.
وكان وضعهم وأحلامهم هو أساس أكبر اليوتوبيات في الأزمنة الحديثة، بل قلْ إنّ التغييرات المتسارعة والواسعة في جميع قوى التاريخ المدنية والثقافة والحضارة التي شهدها المجتمع الحديث قد خلقت مناخاً روحياً شديد التفاؤل بالمستقبل وبيئة خصبة لتفتق الخيال والحلم والأمل باستشراف المجتمع المثالي السعيد القادم، هذا ما عبّر عنه بيكون في كتابه “أطلانطة الجديدة”، وتوماس مور (1478-1535م) في “اليوتوبيا”، وكامبانبلا في “مدينة الشمس”، وإذا كان حلم بيكون البارد بمجتمع منظم تنظيماً علمياً تجريبياً أفلاطونياً صارماً، فإنّ حلم توماس مور وكامبانيلا، كان حلم من لا يريد هذا التاريخ ويتمنى زواله، ولا يحلم إلا بحركته من جميع الحركات إلى جميع الجهات حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والجمال للجميع، إنّه حلم ناجم عن رؤية البؤس والفقر والآلام، وتحول الناجين من الرق وجماهير المدن الكبرى الجائعين والحطام البشري المتبقي من النظام الآفل إلى عمال مأجورين تحت رحمة الآلة المينفكتورية الجديدة التي تسحقهم بلا رحمة، هذا الوضع البائس خلق لديهم الرغبة والحلم، الرغبة في الهرب من تاريخ محكوم بالصراع والظلم والقبح والشر، وحلم البحث عن تاريخ العمل واللعب والابتهاج.
إنّ ردّ فعل الأنا الخلاقة كانت حلماً خافق الجناح نحو البحار القصية صوب المدن الدافئة والمرابع الندية، حيث الخير والحب والمأوى والعمل والفراغ والسعادة، لقد كان هذا الحلم والتمني والرجاء والمثال، الذي حرك خيال هؤلاء الفلاسفة، هو النجاح الذي حققه العلم في تغيير المجتمع، وكان عصر المعرفة الجديد يوشك أن يبدأ، وقد وقف بيكون ومور وكامبانيلا على ضفاف الشاطئ الجديد.
نقلا عن حفريات