ثروت الخرباوي
فى دهاليز الظلام تُحاك الخيوط، وعلى موائد السر تُوزَّع الأدوار، وتُرسَم الملامح الأولى لما يظنه المدبّرون فتحاً مبيناً. يتوهّم صانع المؤامرة أنه المايسترو، يمسك بخيوط اللعبة، يحرّك البيادق، ويصوغ النهاية كما يشتهى.
لكنه ينسى أو يتناسى أن الخيوط التى يمسك بها قد تتحول إلى حبال تلتف حول عنقه، وأن اللعبة التى خطط لها بدهاء، قد تنقلب عليه بفوضى لا يستطيع لها ضبطاً ولا توجيهاً.
فالمؤامرة بطبيعتها كائنٌ مسموم، لا يعيش إلا فى العتمة، فإذا سُلِّط عليه نور الحقيقة، انكشف ضعفه، وبدأ فى التآكل من داخله. والتاريخ لمن يقرأه بعين بصيرة لا يكاد يخلو من أولئك الذين خططوا من أجل القضاء على أوطانهم، فوقعوا فى الحفر التى حفروها، ومن أولئك الذين نسجوا الفتن لغيرهم فاختنقوا بخيوطها.
فكل مؤامرة تبدأ بسرّ، وتنتهى بفضيحة.
وكل من ظنّ أنه يُحكم القبضة على الآخرين، سيأتيه يوم يفلت فيه الزمام من بين يديه، ليكتشف متأخراً أن قبضته لم تكن إلا سراباً، وأن النار التى أشعلها لتحرق غيره، قد أحاطت به من حيث لا يدرى.
هذه هى قصة الإخوان باختصار، أشعلوا النار فاحترقوا بها، ومع ذلك فقد كانت هناك أمور تبدو عبثية عشوائية، ولكنها كانت ترمز إلى عقيدة محفورة فى وجدان تلك الجماعة، منها تلك اللقطة التى ستظل محفورة فى ذاكرة المصريين، فقد ظهرت مشاهد لرئيس الدولة وقيادات الجماعة وهم يأكلون على الأرض، مفترشين السجاد فى قصر الاتحادية.
يا الله!! أهكذا تُدار القصور الرئاسية؟! أهذا يحدث فى قصر رئاسة مصر؟! كان ظن الإخوان أن التواضُع الشعبى هو ما يحتاجه الناس، فحوّلوا مؤسّسة الرئاسة إلى «مصطبة بلدى»، لكن ما ظهر لم يكن تواضعاً، بل كان استعراضاً فجّاً لمفهوم الجماعة عن السلطة: القصر ليس مؤسسة، بل ديوان أشبه بمضيفة شيخ القبيلة، ومظاهر الدولة يجب أن تخضع لمزاج الجماعة.
كان هذا السلوك مثيراً للسخرية، وأثار مخاوف من أن المؤسسات السيادية نفسها تُدار بمنطق «الجماعة»، لا بمنطق الدولة.
ولكن الأنكى والأشد إيلاماً هو ما حدث فى نوفمبر 2012، ففى هذا الشهر تفجّرت واحدة من أخطر أزمات المرحلة: أزمة الدستور الذى صاغته الجمعية التأسيسية المنبثقة عن برلمان تم حله أصلاً.
كان كل شىء فى تلك اللحظة يشير إلى أن الإخوان، بعد أن أحكموا قبضتهم على البرلمان والرئاسة، يسعون لتثبيت مشروعهم أيديولوجياً ودستورياً، عبر «دستور مفصّل» على مقاس الجماعة، لا على مقاس الأمة.
فى البداية، تكوّنت الجمعية التأسيسية للدستور بتركيبة شديدة الانحياز، فقد سيطر الإخوان عليها سيطرة شبه كاملة، بعد انسحاب أغلب ممثلى الكنيسة، والتيارات الليبرالية، والقوى الثورية، والنساء، والمثقفين، بسبب هيمنة الإخوان والسلفيين على الجمعية.
وكان واضحاً أن «اللعبة» محكومة وموجّهة من خارج قاعة الجمعية، وتحديداً من مكتب الإرشاد فى المقطم، الذى كان يُدار منه كل شىء، من مواد الدستور إلى مواعيد انعقاده.
وفى الليلة الفاصلة بين 29 و30 نوفمبر 2012، تم تمرير مسوّدة الدستور بالكامل فى جلسة ماراثونية امتدت إلى 17 ساعة، بعد أن تقرّر بشكل مفاجئ ومباغت أن يتم التصويت على كامل المسوّدة دفعة واحدة، مادة مادة، دون مراجعة مجتمعية حقيقية، ولا وقت للنقاش أو الحوار الوطنى.
ولذلك أطلق المصريون على هذا الحدث اسم «دستور الفجر» أو «دستور منتصف الليل»، و«دستور دُبِّر بليل» لأنه صِيغَ على عجل، فى جنح الظلام، كأنه تهريب دستورى، لا عمل تأسيسى.
وكان اللافت أن المستشار حسام الغريانى، رئيس الجمعية، قاد هذا المسار العجيب بحماس لافت، «الغريانى» الذى يفترض به أن يكون رجل قانون منضبطاً بضوابط المهنة والدستور، بدا وكأنه يمثّل مشروعاً إخوانياً أكثر من كونه صوتاً مستقلاً.
كما لعب الدكتور محمد سليم العوا، المفكر الإخوانى الذى كان يروّج دائماً لوسطية المشروع، دوراً مشبوهاً فى تبرير وتسويغ النصوص الخلافية، خصوصاً فى ما يتعلق بصياغات المواد ذات الطابع المرجعى الدينى، والعلاقة بين السلطات، وصلاحيات الرئيس.
كان «العوا» وقتئذ يتحدث باسم «الإجماع»، فى حين كان الجميع قد انسحب، وكان يروّج بأن «هذا أفضل ما يمكن»، بينما الحقيقة أن أفضل ما فيه كان بالنسبة للإخوان: أنه أعطاهم الشرعية الدستورية للتحكّم فى مفاصل الدولة. وكان من ذلك التوسّع فى صلاحيات الرئيس، ورغم شعار أن هذا الدستور هو «دستور الثورة»، إلا أنه منح سلطات شبه مطلقة للرئيس، حتى بدا أنه يعيد إنتاج فرعون جديد بصيغة دينية.
وفى تلك الليلة -ليلة تمرير الدستور- لم يكن المصريون يشاهدون مجرد جلسة تصويت، بل كانوا يشهدون إعلان ولادة دولة غريبة عنهم.. دولة لا يحكمها دستور، بل يُحكم بها، ولا تكتب باسم الشعب، بل باسم «المكلفين بالحق الإلهى».
كانت الكلمات تُصاغ فى القاعة، لكن الحبر كان من مداد مكتب الإرشاد..
وكانت المواد تُمرّر، لكن القرار يأتى من حيث لا دستور ولا قانون، بل من حيث يهمس المرشد فى أذن الدولة، فتسمع وتطيع.
وهكذا، فى اللحظة التى ظنّ فيها الإخوان أنهم بلغوا قمة التمكين، كانوا يوقعون -من حيث لا يدرون- على بداية الانهيار.
لقد أصبح واضحاً أن مصر لا تُحكم من قصر الاتحادية، بل من المقطم.
أن الرئيس لا يحكم، بل يُبلّغ.
أن مؤسسات الدولة ليست إلا غرفاً جانبية فى مبنى التنظيم.
وما كان يدهش الناس لم يكن فقط الاستحواذ، بل الغباء.
الغباء الذى يجعل جماعة تظن أن التاريخ سيقف لها احتراماً، بينما هو يعدّ لدفنها.
لم يسقطوا بالدبابة.. بل سقطوا بوهم الخلود.
لم تُسقطهم المؤامرة.. بل أسقطهم مشروع لا يرى فى الوطن وطناً، بل غنيمة..
ولا يرى فى الشعب شعباً، بل «جنوداً» فى معركة «التمكين».
ولا يرى فى الدولة دولة، بل سُلّماً إلى السماء.
وفى ظلال هذا الوهم، بدأت الشروخ تتسع.
وبدأ الحلفاء يتراجعون.
وبدأت الأسئلة المحرّمة تُسأل فى العلن:
من يحكم مصر حقاً؟ ولماذا نُقاد إلى الهاوية باسم الله؟
وما لبثت الجماعة التى جاءت باسم «الحرية والعدالة» إلا أن بدأت تحاصر الإعلام ؛ وتحاصر القضاء.
ثم تحاصر الحقيقة ذاتها.
لكن الحصار الأهم كان ما ضربوه على أنفسهم:
حين سدّوا آذانهم عن كل ناصح.
وأغلقوا عقولهم دون كل نقد.
وظنّوا أن ساعة التمكين لا تعقبها إلا الخلافة.
فإذا بها، عند أول هبّة شعبية، تتحول إلى ساعة رحيل.
ولكن قبل الرحيل.. ماذا كان موقفهم من الجيش؟
نقلا عن نداء الوطن