مروة محيي الدينِ
كاتبة مصرية
برزت جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 بقيادة حسن البنا كحركة إصلاحية إسلامية ذات أهداف اجتماعية وسياسية.
وعلى رغم أنّها بدأت نشاطها في الدعوة والإرشاد، فقد أحدثت الصراعات الداخلية، وتنامي الهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الميليشيات الصهيونية المسلحة، تحوّلاً نوعياً في تكتيكها؛ إذ دعا البنا إلى تكوين جيش مسلم لمواجهة الاحتلال البريطاني والحركات الصهيونية.
وبرزت فكرة الجهاز الخاص في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات داخل جماعة الإخوان كامتداد للتوجهات المتصاعدة باستخدام العنف.
فقد رأى حسن البنا أنّه على الجماعة تجهيز جيش إسلامي للتصدي للقوى الاستعمارية، لا سيّما الإنجليز والصهاينة. وصرّح بأنّ الحق والقوة سلطان لا يُقهر، ممّا دعاه للسماح بتشكيل جناح عسكري سرّي داخل الجماعة لمحاربة الاحتلال وحماية الدعوة.
حرب فلسطين ذريعة إخوانية
ترافقت هذه الرؤية الإخوانية لاستخدام العنف مع استعداد الحاج أمين الحسيني لإرسال خبراتهم القتالية إلى القاهرة، فكان الجهاز الخاص وليد تفكير مشترك بين البنا ومفتي فلسطين الذي ذهب إلى ألمانيا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1941، وأعلن تحالفه مع النازي.
تأسس التنظيم الخاص في العام 1940 بهدف إعداد نخبة مقاتلة من الإخوان لخوض مهام عسكرية خاصة.
واتفق الإخوان على تدريب عناصر فتية على العمليات المسلحة ومحو الأميّة العسكرية لدى الشباب، باعتبار أنّ كل الناس اعتادت دفع مبلغ من المال يعفي من الخدمة العسكرية النظامية.
تحرّك الجهاز الخاص ضمن مناخ عام، اتسم بانتشار التنظيمات السرّية؛ فمثلاً كان لمصر الفتاة والحزب الوطني أجنحة مسلحة، واستغل الإخوان هذا التوجه العام لبناء جهاز خاص يضمن الولاء لقياداتهم ويضطلع بمهام “الجهاد” المعلَن والمزعوم.
أراد الإخوان من هذه التحركات تحقيق أهداف الجماعة في إطار ما كانت تعتبره جهاداً؛ ولذلك وُضعت برامج تدريبية عسكرية قاسية، استخدمت في التفجير والهجوم، تربط المجاهدين المفترضين بالقيادة عبر ميثاق بيعة صارم، بهدف تأمين القادة وضمان الطاعة المطلقة.
حادثة السيارة الجيب
في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 انكشفت طبيعة الجهاز الخاص، عندما لاحظ ضابط البوليس الملكي صبحي علي سالم سيارة جيب رمادية اللون بدون لوحات في شارع جنينة القوادر، بحي الوايلي في القاهرة، فاستوقف ركابها المشتبه بهم.
نزل من السيارة ثلاثة، من بينهم مصطفى مشهور، الذي صار لاحقاً مرشداً عاماً للإخوان، وكانوا يحملون صناديق وحقائب كبيرة.
وجرى اشتباك قصير بينهم وبين الضابط الذي أصرّ على ملاحقتهم، والصياح بأنّهم “صهاينة”، حتى تم ضبط بعضهم بمساعدة المارّة.
وعند تفتيش السيارة عُثر على كمية هائلة من الأسلحة والألغام وكميات كبيرة من المتفجرات وعبوات ناسفة وقنابل، بالإضافة إلى ذخيرة رشاشات ومسدسات وخناجر وأجهزة تفجير بالساعة.
لم تكن المسألة مقتصرة على السلاح فحسب، بل ضُبطت وثائق سرّية بالغة الخطورة، فقد عُثر على مستندات بخط اليد تتضمن تعليمات تنظيمية حول هيكل الجهاز الخاص ونظام الخلايا السرّية، كما تضمنت أوراق فتوى لوجوب اغتيال “أعداء الإسلام” عند الاقتضاء، وخطة سياسية للاغتيالات تقوم على التكفير، فضلاً عن بيانات خاصة بمتابعة واغتيال الشخصيات الأمنية والمجندين.
علاوة على ذلك كشفت التحقيقات وجود خطط محدّدة لعمليات تخريبية.
فقد عُثر في حافظة مصطفى مشهور على وثيقتين تفصيليتين تضعان خطة لتفجير مطار ألماظة الدولي، كما تضمّنت المضبوطات وثائق استخباراتية عن شخصيات عامة وبنوك، وأدلة على مشاريع تجسّس داخل أقسام الشرطة والمرافق العامة، وقد فضح هذا الحدث بأدلة ملموسة وجود النظام الخاص السرّي داخل جماعة الإخوان.
تداعيات الحادثة
كانت للحادثة تداعيات فورية وبعيدة المدى على الجماعة ومستقبلها؛ فقد أعلنت حكومة رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي قراراً بحلّ جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال أعضائها وترحيل البعض، بناءً على ما عُثر عليه.
وفي صباح يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 1948 اغتيل رئيس الوزراء المصري على يد عضو الجهاز الخاص عبد المجيد أحمد حسن، وذلك بعد (20) يوماً من قرار حلّ الجماعة، ومصادرة أموالها واعتقال أعضائها، وبذلك صارت جماعة الإخوان في مرمى اتهام رسمي.
من جهته، حاول حسن البنا احتواء الموقف، وأصدر بياناً عقب الحادثة بعنوان: “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين”، تبرّأ فيه من القاتل ومنفذي عملية الاغتيال، في محاولة للتنصل من مسؤولية الجماعة عن الجريمة.
ورغم ذلك، حدث تحول مفاجئ في القضية، فقد نجح الإخوان في توظيف محنة فلسطين، وأحيل المدانون إلى محكمة مدنية، وتم استدعاء محامين وممثلين إسلاميين ووطنيين للدفاع.
وبعد الاطلاع على مزاعم إظهار الجماعة كفصيل وطني يناضل ضدّ الصهيونية، وفي ظل الصراع السياسي الداخلي مع حزب الوفد، حكمت المحكمة ببراءة الغالبية وحُكم على قلة منهم بعقوبات مخفّفة.
وقد زعمت المحكمة في حكمها أنّ أهدافهم مشروعة وطنياً، معتبرة إيّاهم من ذوي الأغراض السامية التي ترمي إلى تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب.
هذا الحكم القضائي المشبوه شكّل صدمة للرأي العام، وللمفارقة، فإنّ رئيس المحكمة ذاتها أحمد كامل كان عضواً في جماعة الإخوان.
على الصعيد التنظيمي الداخلي، دفعت النتائج القيادات إلى إعادة ترتيب الأوراق، فقد أقرّ حسن البنا بحلّ الجهاز الخاص الذي كان يقوده عبد الرحمن السندي، وأنشأ بعد ذلك جهازاً سرّياً جديداً، يخضع لسلسلة من الأوامر المركزية، تكون قيادته مرتبطة به مباشرة.
أدت هذه الخطوة إلى استياء فئة من القيادات، إذ حاول بعض أعضاء الجهاز الخاص المنحل القيام بانقلاب داخل الإخوان، وإجبار البنا على التنحّي والقيام بأفعال احتجاجية، بيد أنّ البنا استمر في قيادته وشدّد على ضرورة احتراف العمل الدعوي والسياسي علانية.
انعكس الحدث على المسار السياسي للجماعة، واستغل الإخوان الحكم القضائي لإظهار شرعيتهم وقطع الطريق على المعارضة المدنية.
المصدر : حفريات