أدونيس غزالة
كاتبة سورية
يُحسب للكثير من الفلاسفة والسيكولوجيين والسياسيين ــ الذين اعتمدوا على جهود السابِقين في رسم سياساتهم ومشاريعهم ــ سعيهم الحثيث لتحقيق الاستقرار الاجتماعي؛ فالمجتمعات المستقرّة تقود تصوراتنا إلى حالة من الرفاه والازدهار ينعم الجميع في ظلّها بالطمأنينة والسلام، هذا بالضبط ما وقف تاريخياً وراء جمهورية أفلاطون وعقد روسو الاجتماعي، وصولاً إلى الحركات الاجتماعيّة والسياسية الحديثة، ولكن من الجدير بالملاحظة أنّه بالرغم من المكاسب الاجتماعيّة والسياسيّة التي تحققت في يومنا هذا، وبالرغم من الجهود الأمميّة التي تبذلها المنظمات والهيئات والمؤسسات التابعة لها، لا زلنا نرى أنّ الاستقرار الاجتماعي مسألة يصعب تحقيقها، هذا ما يدفعنا للبحث في أماكن أخرى عن جذور هذا العطب، ومحاولة فهم: لماذا لم نتمكن من استدامة مجتمعات مستقرّة حتى الآن؟
ربما يمكن للشعور بعدم المساواة أن يفسّر نصف المشكلة، كما يمكن للتناقض ما بين رغبتنا في المساواة وسلوكنا التحيّزي أن يفسر نصفها الآخر؛ فالتماسك المجتمعي هو عمليّة شاملة لا يحققها تطابق الأفراد وتماثلهم، بل تتحقق في قدرة الأفراد على الاختلاف؛ أي في قدرة الوجود معاً، وهنا وحين يصبح كل وجود مشروعاً ويتمتع باستقلاليته، يمكن للتماسك المجتمعي أن يكون خياراً عقلانياً، لا خياراً تفرضه سلطة الأمر الواقع، ممّا يجعل تفككه حاضراً في وجوده، وهذا ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي “جان فال” في قوله: “الوجود للمعيّات وليس للماهيات، العلاقة هي الأصل في الذات، وليس العكس، العلائق هي ما يولّد العناصر، وليست هي ما يتولّد بين العناصر”.
في إشارة “جان فال” السابقة، يمكن أن نحدد الطبيعة اللامساواتيّة كممارسة اجتماعيّة، يصنعها الأفراد في علاقاتهم مع بعضهم البعض؛ حيث تتأسس على وجود مقلوب يقوم على الماهيّات، التي أسس لها الكثير من فلاسفة العصور القديمة والحديثة وعلماء اجتماعها؛ حيث تبدأ هذه اللامساواة من تبنّي نُظم تحيّزية، تقوم أصلاً على الإقصاء والتهميش والتجاهل، وقد يكون الأمر أوضح ما يكون في نظرتهم إلى النساء؛ حيث يتفقون على أنّ المرأة وإن كانت تلعب الدور الرئيس في التربية، إلّا أنّهم يحطّون من قيمتها، ويؤكدون على تبعيّتها للرجل، وأنها جزء من الممتلكات الخاصة، ويقسمون الأدوار ما بين أدوار خاصة للمرأة، وأدوار عامة للرجل، ويحصرون وجودها بالإنجاب والأمومة ورعاية الأطفال والزوج وأعمال الأسرة.
من المفيد أن نستعرض السياق التاريخي لوضعية المرأة في كتاب “عصمت حوسو”، “الجندر”، كي نلمس التناقض بين من أُوكل إليها مهمّة التربية من جهة وبين النظرة الدونيّة لها من جهةٍ أخرى، فأرسطو عرّفها بأنها رجل ناقص، وأفلاطون كان يأسف أنه ابن امرأة ويزدري أمه لأنها أنثى، وسقراط يرى في وجودها مصدراً للأزمة وانهيار العالم، بينما فلاسفة الأنوار كهوبز يرى أنّ الرجل هو سيد العائلة لا المرأة، كما أنّ جون لوك يؤكد على إقصاء النساء عن المجال الاقتصادي، أما جان جاك روسو مؤلّف العقد الاجتماعي وكتاب “إميل”، يرى أنّ المرأة هي مصدر الشر والخطيئة وأنّ خضوعها للرجل هو العقاب الذي تستحقه.
كما أنّ هناك من علماء الاجتماع كأوغست كونت الذي وصف المرأة بأنها أدنى من الرجل من الناحية العقلية وعليها أن تكون تابعة وخاضعة للرجل، ورفض أن يكون للنساء أية مشاركة في صنع القرار، أو أية مشاركة سياسية، أما إميل دوركهايم فقد رأى أنّ السلطة يجب أن تكون للرجل وتتضمن هذه السلطة السيطرة على المصادر الاقتصادية، ويأتي ماكس فيبر ليقصر دور المرأة في إطار العائلة والأمومة والرعاية، ومثله هيربرت سبنسر الذي تراجع في كتابه الأخير عن المساواة بين الرجل والمرأة، وتالكوت بارسونز الذي قسّم المهام بما هو داخل البيت مهمة المرأة وما هو خارجه مهمة الرجل.
إنّ أهمية المساحة المجتمعية التي تشغلها الأسرة، والتي عوّل عليها الكثير من المفكرين لبناء هذا الاستقرار الاجتماعي، ستنقلب وفقاً لتصوراتهم اللامساواتيّة بين الرجل والمرأة، إلى ساحة لممارسة كافة أنواع العنف المادي والرمزي، وسوف تنعكس نتائجها لا على الأسرة فحسب؛ بل ستشمل المجتمع بأكمله، فاللامساواة الاجتماعيّة، ستهيئ لمجتمعٍ مستعدٍ لقبول العنف وممارسته بكل أشكاله المتوفرة، وهذا بدوره سيؤسس أجيالاً تقوم علاقاتها على عقد النقص وأمراض التفوّق والهيمنة، ممّا يعني مرضاً نفسياً شاملاً يتلخص في القلق والعزلة والخوف وما يجرّه من انعدامٍ متبادلٍ للثقة، ثم الانسحاب من الواقع إلى عزلةٍ تنتهي بجفاف الفرد وجفاف قدراته معاً، حيث تغدو سمته الوحيدة، فرادته في إنتاج نزاعات وحروب، وحلول موضعيّة تسهم في بقاء المعضلة واستمرارها.
المساواة التي يمكن أن تكون أحد أهم مرتكزات الاستقرار المجتمعي، لا تعني تماثل الأفراد، فأكثر المجتمعات استبداداً هي من تجعل الأفراد متماثلين متطابقين، وتسمي مجتمعاتها الراكدة بالمجتمعات المستقرة؛ فالمساواة هي ما ينتج حين ندرك أنّ ثقافة الاختلاف هي الطريق الوحيد المفضي إلى إنسانيتنا، والشرط الوحيد لنحقق تكاملنا، وبالتالي النظرة الدونيّة إلى المرأة لا يمكن أن تنفصل عن أي خلل حدث أو ما زال يحدث اليوم، فالحجج الواهية التي أنتجها الحبر الذكوري للبرهنة على دونيّة المرأة، ثبت اليوم وبالأدلة العلمية زيفها وبطلانها، ومع ذلك مازلنا نحتكم إلى هذا المنطق، فروسو العظيم رمى خمسة من أبنائه إلى الميتم ليموتوا تباعاً، ومازال عظيماً حتى اليوم، إنّ آراءه وآراء أمثاله من عباقرة التاريخ، لم تنتج مجتمعاً مستقراً، بل ساهمت في تكريس العنف والتمايز، وتأصيلهما كحقيقة طبيعيّة تتحكم في الطبيعة البشرية وتقودها.
بخلاف الكائنات ما دون البشرية، فإنّ الكائنات الوحيدة التي تتناقض مع نفسها هم البشر، وباعتقادنا أننا امتلكنا الثقافة والمعرفة لكنهما لم يكونا سببين كافيين ليستقرّ مجتمع ما، ففي كل نزاع عبر تاريخنا حدث لأنّ هناك عدم كفاءة في إدارة إنسانيتنا، لقد عجزت كل الفضائل التي صاغها التاريخ عن تأسيس مجتمع عادل، نعم هناك خلل بنيوي يجعل من الحياة نقمة والوجود جحيماً، خلل يجعلنا نبدّد فرصة أن نعيش هذه الحياة القصيرة جداً جداً بحبّ وسلام، لا يمكن لهما أن يتحققا إذا لم نتساوَ جميعاً أمام فرص إنسانيتنا.
نقلاً عن حفريات