د. عبدالعليم محمد باعباد
لطالما حفلت أدبياتنا الثقافية، والفكرية و السياسية طيلة عقود من الزمن بأن واجبات الدولة تجاه مواطنيها هي: توفير المأكل والمشرب والملبس، ورغم تغير وظيفة الدولة بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار المعسكر الاشتراكي، إلا أن الوفاء بتلك الأساسيات – ولو في حدودها الدنيا – ظلت مهمة الدولة، و المنطلق الأساس في نضال أغلب المعارضة السياسية في كل نظام، سواء كان نظاما ليبراليا، أو نظاما هجينا.
صحيح أن غالبية الدول منذ نهاية الألفية الثانية وحتى اليوم كانت قد اتجهت في سياستها الاقتصادية سياسة السوق الحر رغبة أو اضطرارا، ولكن رغم ذلك تظل واجبات الدولة حتى في الأنظمة الليبرالية الكبرى هي ضمان أساسيات الحياة وتوفير متطلبات العيش الكريم.
إن تسويق الأنظمة الليبرالية لفكرة الحرية والديمقراطية، وافتخارها بذلك – رغم مساوئها – لم يكن على حساب أساسيات الحياة المعيشية، ومع كل ذلك كانت وماتزال هذه الأنظمة محل انتقاد كبير من قبل الكثير من المفكرين والسياسيين والاقتصاديين في العالم، فمقابل فكرة ترويج الليبرالية للحرية والديمقراطية ظهرت فكرة التنمية حرية، التي تدافع عن هذه الأساسيات.
و هذا ما يفسر أن كتاب ماركس الموسوم” رأس المال” ما زال يحظى بكثير من الدراسات، والبحوث، بل والتدريس، ولهذا مازالت تطبع منه آلاف النسخ شرقا وغربا، ومازال رغم مرور ما يقارب من 150 عاما لم تتقادم قوانيه الاقتصادية، ولا توصيفه لمساوئ الرأسمالية.
غير أن الأمر المثير تنصل الكثير من المحسوبين على تيار اليسار في عالمنا العربي عن تلك المبادئ، رغم أنها مبادئ اقتصادية عامة، لا تدخل في المفهوم العقدي الأيديولوجي للماركسية، وإن كانت متفرعة عنها، إلا أنه يمكن الاسترشاد بهذه الأسس والمبادئ الاقتصادية والاستفادة منها في ضرورة حفاظ الدولة على المؤسسات العامة، وضمانها للحد الطبيعي للمتطلبات المعيشية للمواطن.
كثير من اليساريين متمسكين بذكرياتهم، أكثر من تمسكهم بالمبادئ الأساسية التي تشكل قواسم مشتركة بين كل الأنظمة والمجتمعات الإنسانية.
بل ربما باتوا منفذين لمساوئ السياسات الإمبريالية، في موقفها من قضايانا الوطنية والقومية العربية بقصد أو بدون قصد، ولا يترفعوا عن قبول وظيفة الترويج لهذه السياسات، والدخول في عالم البزنس والرأسمال، مع نسيان ما كان من قبيل الأهداف لتيار اليسار.
هذا التحول ربما كان نتيجة طبيعية لعدم محاولة اليسار التجديد والتغيير في إعادة بلورة نظرية سياسية واجتماعية واقتصادية تأخذ بعين الاعتبار حقائق الواقع العربي والإسلامي بهويته الدينية وتاريخه وحضارته، مع الاحتفاظ بمحاسن الاقتصاد العام الذي يوجب على الدولة، إزالة الهوة الكبيرة بين فئات المجتمع ، وكفالة أساسيات المعيشة لحياة المجتمعات والشعوب.
ولغياب هذا التجديد صار هذا التيار يعيش مرحلة غياب البوصلة، الأمر الذي جعل الكثيرين منهم عرضة للاستخدام السياسي الليبرالي، والتحول الوظيفي رغم التمسك بتلابيب اليسار ظاهريا.