هشام النجار
أثار رحيل الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، مؤسس تيار السلفية المدخلية، موجة من السجال داخل التيارات الإسلامية، كاشفًا عن التوتر الكامن بين من يعتبرون هذا التيار امتدادًا للشرعية الدينية الموالية للحكام، ومن يرونه غطاءً ناعمًا لخطاب متشدد ينافس الإسلام الحركي في النفوذ والتأثير. ورغم انحسار الإخوان والسلفية الحركية عن المشهد، يبرز تيار المدخلية كلاعب ديني مؤثر، مستفيدًا من دعم الأنظمة وتراجع الخصوم، لكنه يواجه تساؤلات متزايدة حول مشروعه الفكري وأثره على بنية المجتمع والدولة.
وفور وفاة الشيخ المعروف ربيع بن هادي المدخلي قبل أيام قليلة، مؤسس ما عُرف بتيار “السلفية المدخلية”، انهالت هجمات من قادة جماعة الإخوان والسلفية التقليدية بتوجيه انتقادات حادة للرجل وتياره، بحجة موالاته للحكام وفق مبدأ السمع والطاعة لولي الأمر.
ويتأسس عداء تيارات الإسلام السياسي للمدخلية السلفية على كونها تقدم نفسها بديلًا عن (الإسلام الحركي) وجماعة الإخوان، على عكس الشائع في أوساط بحثية من أنها ليست مختلفة كثيرًا في المنهج والرّؤى والفكرية.
ويرجع الهجوم الذي شنه قادة جماعة الإخوان ورموز من السلفية الحركية والتقليدية على الشيخ ربيع بن هادي بعد وفاته لدرجة وصف أحد مشايخ السلفية بأنه (مُسْترَاحٌ منه)، لمساهماته في امتصاص موجة الثورات والاحتجاجات التي عمت المنطقة السنوات الماضية.
وتنظر جماعة الإخوان إلى السلفية المدخلية كعدو، على خلفية إسهامها في كسر طموح زعماء الجماعة في أن تكون الثورات رافعتهم للانتقال إلى مرحلة التمكين والقبض على مقاليد السلطة لعقود طويلة.
ولعب تيار المدخلية السلفية عبر فروعه ذات الثقل في الكثير من الدول العربية، خاصة مصر وتونس وليبيا، دورًا مهمًا، وإن كان غير ملحوظ للبعض، في عدم إحراز الحَركات الجماهيرية منذ العام 2011 أهدافها الكاملة المُخطط لها، بشأن إزاحة الأنظمة القائمة وتثبيت أفرع جماعة الإخوان وحلفائها داخل جناح السلفية الحركية مكانها.
وانتقد رموز ودعاة السلفية المدخلية في مصر جماعة الإخوان خلال فترة حكم الرئيس الأسبق المنتمي للجماعة محمد مرسي، وأيد هذا التيار ما حدث في 30 يونيو 2013 من ثورة شعبية وعزل للإخوان من الناحية الشرعية، حيث أكد الداعية السلفي محمد سعيد رسلان، أحد أبرز رموز التيار المدخلي في مصر، أن من يتولى الحكم هو من غلب بسيفه تعبيرًا عن (شرعية الحاكم المُتغلِب).
وينبني هذا التوجه على أن تيار المدخلية السلفية يعتبر الثورات ضد الأنظمة والحكومات مُحرَمة، والاحتجاجات والمظاهرات بدعة في الدين، من منطلق وجوب السمع والطاعة للحاكم وإن كان ظالمًا و(إن جَلدَ ظهْرَك).
ويعتبر تيار المدخلية السلفية الحاكم “محور الجماعة المسلمة”، وأن الجماعة هي السلطان، ومعارضة النظام الحاكم وتشكيل جماعات وتنظيمات وفرق داخل إطار الدولة هو خروج مباشر عليه، ومُروق عن حمى أهل السنة والجماعة، ولذلك يُعد هذا الصنيع في أدبيات المدخلية أقصى انتهاك للمنهج السلفي وأكثر مظاهر الخلل العقدي وضوحًا وبروزًا.
وساند مشايخ ودعاة السلفية المدخلية ثورة يونيو في مصر، والتي دعمها الجيش، عبر خطب وبيانات نوعية ترد على حجج الإخوان واستشهادات مُفتيها يوسف القرضاوي بأدلة على شرعية الثورة والانقلاب ضد الحكام.
ولم تنسَ جماعة الإخوان ومعها السلفية الحركية أن هذا النشاط النوعي من قبل السلفية المدخلية قلل من تأثيرات الخطاب الإخواني والسلفي الحركي وسط العامة، ما أسهم في التمهيد للتغيير وإزاحة الإخوان من المشهد.
وأفتى الشيخ محمد سعيد رسلان، أحد أهم رموز السلفية المدخلية بمصر، بعدم صحة دفع الديات الشرعية في قتلى فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في أغسطس 2013 بمصر، كون المشاركين من (البغاة الخارجين على الحاكم)، ولعب الرجل دورًا مهمًا في توصيف ما دعت له الجبهة السلفية (تنتمي إلى السلفية الحركية) في التظاهر تحت عنوان (انتفاضة الشباب المسلم)، ورآها خروجا على الحاكم ومن أفعال الخوارج.
وكثيرًا ما انتقد رسلان السلفيين الحركيين، واصفًا إياهم بأنهم أهل ثورة وفتن وفوضى وقلاقل، وتسببوا في خراب الكثير من الدول ودمارها.
وعلى الرغم من فراغ الساحة من جماعة الإخوان وجناح السلفية الحركية بعد عزل الإخوان عن السلطة، إلا أن الحاجة إلى المدخلية السلفية لم تنقضِ ولا تزال قائمة إلى اليوم.
وترتبط الحاجة بالنقد الديني الدائم من قبل دعاتها ورموزها لأصول جماعة الإخوان المنهجية، والضغط على فروع السلفية الناشطة مثل السلفية الدعوية والعلمية.
وينتقد بعض شيوخ المدخلية جناحَ السلفية العلمية، ويتهمون دعاة مثل محمد حسان ومحمد حسين يعقوب بأنهم “قطبيون” نسبة إلى الإخواني سيد قطب، ويستلهمون أفكارهم من منهجه التكفيري، ولا يصح سبهم للسلفية، وهو ما ينطبق، في رأيهم، على دعاة مثل سفر الحوالي وسلمان العودة.
ويُضاف ذلك إلى الجهد المبذول من قبل دعاة المدخلية السلفية ومنظريها خاصة في مصر مثل (محمد سعيد رسلان وطلعت زهران ومحمود لطفي عامر ومحمود عبدالرازق الرضواني) في كشف خلل منهج جماعة الإخوان الفكري وانتقاد منظر الجماعة الرئيسي سيد قطب واتهامه بأنه أساء إلى عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان خلال صراعهما الشهير مع علي بن أبي طالب، علاوة على الهجوم المستمر على كتب سيد قطب وفي مقدمتها كتاب (معالم في الطريق).
ولا ينقل هذا الجزء من المشهد الحالي عقب وفاة مؤسس المدخلية السلفية الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، الصورة الكاملة للصراع والتجاذبات، حيث يستغل التيار المدخلي توظيف الأنظمة له وخلو الساحة لفرض رؤى متشددة وتعظيم النفوذ.
واستفاد التيار المدخلي من نشوب صراعات في بعض الدول العربية مع جماعة الإخوان في سبيل فرض حضوره كأمر واقع والتحرك بحرية للترويج لأفكار متشددة، ما يشي أحيانا بأنه وجه آخر للإخوان وللسلفية التقليدية، لكنه يتخذ وسائل متباينة في الطريق المُعاكس عبر مُداهنة السلطة، لتحقيق نفس الأهداف وهي فرض الرؤى المتشددة.
وجرى في مصر السكوت عن مخاطر التيار المدخلي من هذا الجانب لحسابات سياسية ظرفية، واستفادت السلطة من الخطاب الديني الحاد للتيار المدخلي المنتقد لجماعة الإخوان، لكن بعد أن هدأت العاصفة بدأ البعض يقف على مخاطر تسلل السلفيين (وغالبيتهم مداخلة) إلى المجتمع ومحاولة الاستقواء لفرض تأويل ديني متطرف في مدونة الأسرة.
ويجد البعض أن هناك آثارًا سلبية للحضور السلفي المدخلي؛ حيث يهدف هذا التيار في أي دولة إلى تعزيز نفوذه وهيمنته الناعمة على المجال العام.
وإذا كانت الأجهزة والسلطات تغض الطرف عن المدخلية للحد من نفوذ أجنحة دينية، مثل الإخوان، فالمداخلة يوظفون ذلك لتحقيق مكاسب عبر التغلغل داخل نسيج المجتمع وبناء هوية متشددة ونشر قناعات متطرفة في العديد من المسائل والملفات الحساسة.
ويرى حسام الحداد الباحث المتخصص في شؤون تيار الإسلام السياسي أنه ينبغي الانتباه إلى آثار حضور ونشاط السلفية المدخلية في الريف والمحافظات النائية وأخذها بعين الاعتبار، وفي مقدمتها سعي التيار المدخلي نحو فرض رؤاه المتشددة التي لا تختلف عن أفكار ورؤى الإخوان والسلفيين العاديين، مثل إقامة نموذج حكم ديني يستند على أفكار أحادية وفهم خاص للأحكام والمفاهيم الدينية.
ويقول مراقبون إن الدولة التي حققت انتصارًا نوعيًا على جماعة الإخوان وأجنحة السلفية الحركية المتحالفة معها، قد تخسر نسبة من تعاطف بعض المكونات المجتمعية المتضررة من تزايد نفوذ التيار المدخلي السلفي بسبب سعيه لفرض رؤى تقدح في هوية الدولة التعددية وتهاجم الحريات الفردية.
ويفضل السير في طريق ثالث آمن بعيدًا عن الاضطرار إلى المفاضلة بين جناحين، كلاهما متشدد، وإن كان أحدهما مُهَادنا مؤقتا، ويتمثل الطريق الآمن في الانفتاح على مدارس فكرية تعبر عن المجتمع والتدين النقي، بمعزل عن مجمل الأجنحة التراثية والسلفية التقليدية التي تتسبب في انقسامات ومشكلات ناتجة عن محاولات فرض رؤى غريبة متشددة.
المصدر : صحيفة العرب