كريتر نت – متابعات
دخل مصطلح المارونية السياسية إلى المعجم السياسي اللبناني عشية الحرب الأهلية في البلاد (1975- 1990). وكان طرحه بسبب زعامة عائلة جنبلاط الدرزية، التي انتقدت الهيمنة المارونية على النظام الطائفي في لبنان. لكن المارونية السياسية، في جوهرها، عكست رغبة القيادة السياسية والروحية للطائفة الكاثوليكية المارونية في التأثير على سياسات لبنان الداخلية والخارجية بهدف الحفاظ على النفوذ الماروني داخل الدولة.
ويعتقد هؤلاء المؤيدون أن هذا التأثير وحده هو الذي يمكن أن يضمن حماية امتيازات وسلامة الطائفة المسيحية بشكل عام والطائفة المارونية بشكل خاص. ومارس الموارنة السلطة في نظام يدعمه التوازن الطائفي. لكن هذا التوازن الطائفي كثيراً ما يختل.
وشعر الرئيس كميل شمعون (1952-1958) بالتهديد من القومية العربية الصارخة التي أطلقها جمال عبدالناصر في مصر، والتي كثفت معاداة المارونية بين اليسار والنشطاء المؤيدين للفلسطينيين والقوميين العرب. وحشدت جبهة الاتحاد الوطني، بقيادة رجل اليسار كمال جنبلاط، الجماعات المناهضة للموارنة، معتبرة الناصرية تهديدا مباشرا لانفصال لبنان غير الرسمي عن الصراع العربي – الإسرائيلي، وللهيمنة المارونية على الدولة اللبنانية.
وبسبب علاقته المتنامية مع الولايات المتحدة أيد شمعون مبدأ أيزنهاور، الذي بموجبه يمكن لأي بلد أن يطلب الجيش الأميركي للمساعدة إذا كانت الدولة مهددة من قبل دولة أخرى. وبمجرد موافقة البرلمان اللبناني على هذا المبدأ دعت جبهة الاتحاد الوطني الحكومة إلى الاستقالة والإضراب العام. وفي الوقت نفسه قامت مصر وسوريا بتزويد معارضة شمعون بالأسلحة.
وفي مايو 1958 تحول الإضراب العام إلى حرب أهلية. واستشهد شمعون بمبدأ أيزنهاور وطلب المساعدة العسكرية من الرئيس دوايت أيزنهاور. وتلا ذلك نقاش ساخن في الكونغرس الأميركي لأن بعض الأعضاء اعتقدوا أن القضايا الداخلية ليست هي التي تكمن في قلب الحرب الأهلية في لبنان. وفي نهاية المطاف لم يحدث التدخل العسكري الأميركي إلا بعد أن أطاح انقلاب قومي عربي عنيف بالنظام الملكي الهاشمي الموالي لبريطانيا في العراق.
وقام مشاة البحرية الأميركية بنزع فتيل الأزمة. ورغم ذلك طفت أسبابها على السطح من جديد، مما أدى في النهاية إلى اندلاع الحرب الأهلية الطويلة والدموية في لبنان (1975 – 1990). وقاد جنبلاط المعسكر الإسلامي، الذي كانت ركيزته الأساسية هي الحركة الوطنية، وهي ائتلاف يضم اليساريين والماركسيين والناصريين والمؤيدين للسوريين. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية واجهة الحركة الوطنية.
وسعى جنبلاط إلى إسقاط هيمنة المارونيين على الدولة لأنه اعتبرهم لاعبين أساسيين في المؤامرة الأميركية والصهيونية ضد لبنان والعرب بشكل عام. واحتشد المسيحيون حول الجبهة اللبنانية، التي ضمت دعامتها الأساسية حزب الكتائب وحزب الأحرار الوطني وأنصار الرئيس سليمان فرنجية. ولم يؤد التماس الموارنة مساعدة المعسكر المسيحي من الأميركيين إلى أي شيء، على الأقل حتى واجه المعسكر الهزيمة في عام 1976. واعتبرت واشنطن فوز المعسكر اليساري القومي العربي بمثابة انتصار للاتحاد السوفييتي.
وتوسطت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فورد في التوصل إلى اتفاق الخط الأحمر غير المكتوب بين إسرائيل وسوريا للسماح بالتدخل العسكري السوري في لبنان من أجل وقف الحرب ومنع انهيار المعسكر المسيحي. وطلب بشير الجميل، ابن مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل، مساعدة إسرائيل لتعزيز المعسكر المسيحي وطرد القوات السورية وقوات منظمة التحرير الفلسطينية في نهاية المطاف من لبنان. وساعدته إسرائيل، حيث أصبح المحور الذي تدور حوله سياسة إسرائيل في بيروت.
وفي هذه الأثناء أمر بشير، تحت شعار توحيد “البندقية المسيحية والقضية” في ما أصبح يعرف لاحقا باسم القوات اللبنانية، باغتيال توني ابن الرئيس السابق فرنجية، وبالتالي شل ميليشيا الكتائب المنافسة، وهي حزب الليبراليين الوطنيين. وتركت مجزرة إهدن والصفراء في عامي 1978 و1980 جروحاً عميقة في الوعي الجماعي للمجتمع المسيحي، والتي تعمقت بعد اغتيال داني ابن الرئيس السابق شمعون وعائلته في عام 1990.
وخلال هذه الفترة كان همّ واشنطن الرئيسي في المنطقة هو الاستقرار ومنع نشوب حرب عربية – إسرائيلية. وجاءت واشنطن للتوسط في اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979، وطرحت فكرة اتفاق سلام محتمل بين إسرائيل وسوريا. وكان شعار وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر “لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا” يعكس وجهة نظر الولايات المتحدة.
لكن واشنطن ظلت حريصة على مراقبة التطورات المتسارعة في لبنان وتداعياتها على المنطقة. وراقبت أجهزة الاستخبارات الأميركية، بقيادة روبرت أميس، عن كثب سلسلة الأحداث في بيروت التي مزقتها الحرب. وكانت علاقة أميس، من بين مسؤولين أميركيين آخرين، متناقضة مع الموارنة. ورغم أن المسؤولين الأميركيين سعوا إلى دعم الموارنة نظراً لموقفهم المؤيد لواشنطن، إلا أن لديهم أيضاً مخاوف بشأنهم.
وشعر أميس بأن هناك ما يكفي من الكراهية في لبنان لملء العالم كله. ووصف بشير بأنه “أمير الحرب الوحشي”. وكثيراً ما أكد على أن “المسيحيين يريدون دولتهم الخاصة، التي تحميها الولايات المتحدة، تماماً مثل إسرائيل. لا نحتاج إلى إسرائيل أخرى في المنطقة”. ولا تزال كلماته تتردد بشكل أو بآخر في أروقة السلطة الأميركية. وتوفي أميس في تفجير السفارة الأميركية ببيروت في أبريل 1983.
وأثار الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 قلق واشنطن التي أرادت حل الصراع قبل أن ينتشر في جميع أنحاء المنطقة. وتم انتخاب بشير رئيساً وتم طرد منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس. وعزز بشير، الذي كان يفكر في إنشاء دولة مسيحية، تصميمه على تأمين سيادة لبنان الإقليمية. وأكد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان لبشير أنه لم يعد زعيماً مسيحياً طائفياً، بل صار زعيماً لكل اللبنانيين بغض النظر عن طوائفهم.
وبعد أن شعر النظام السوري بالهزيمة المحتملة في لبنان، قام بتدبير عملية قتل الرئيس المنتخب على يد لبناني مؤيد لسوريا. وكان موت بشير بمثابة انهيار للقواعد التي بنت عليها إسرائيل سياستها في لبنان. ونتيجة لذلك، عندما بدأت إسرائيل انسحابها من لبنان في الفترة 1983-1984، هُزمت القوات المسيحية في منطقة الشوف في جبل لبنان.
وتراجعت محنة المسيحيين إلى مستوى جديد من الانخفاض عندما أعلن رئيس الوزراء المؤقت العماد ميشال عون “حرب التحرير” ضد سوريا في عام 1989. وفي الوقت نفسه عارض عون الجهود التي بذلها النواب اللبنانيون لتعديل الدستور ورفض النسخة الجديدة من الدستور، المعروفة باسم “اتفاق الطائف”، باعتباره مخططا سوريا لتقليص السلطة المارونية، ودعا القوات اللبنانية إلى الوقوف إلى جانبه في مواجهة التحدي السوري.
واعترضت القوات اللبنانية لأنها اعتبرت حرب عون على سوريا انتحاراً سياسياً. ونتيجة لذلك نشبت صراعات مميتة بين قوات عون والقوات اللبنانية، مما أدى إلى تحطيم ما تبقى من الوحدة المسيحية. وعلى هذه الخلفية قام العراق بغزو الكويت. واحتاجت واشنطن إلى مساعدة سوريا في تشكيل تحالف دولي وعربي مناهض للعراق لإخراج العراق من الكويت.