محمد حسين أبو الحسن
يعتبره كثيرون رجل دولة مخضرماً ودبلوماسياً عبقرياً، ويصفه منتقدوه بأنّه مجرم حرب، لكن الغالبية تراه بين المنزلتين. هنري كيسنجر “الثعلب العجوز” ذو السجل الحافل و”نوبل للسلام”، لا يتوقف عن إثارة الاهتمام والجدل. برغم بلوغ عمره مئة عام، فإنّه “سيّد اللعبة” الدبلوماسية، يتّقن فن الدهاء والإنجاز، خطوة خطوة؛ فهو الأكثر نفوذاً في تاريخ الدبلوماسية الأميركية، يتابع مجريات الأحداث في العالم، ويحرص على تقديم تحليلاته السياسية، مفصحاً عن توقعاته لكثير من القضايا؛ متحدّياً ضعف الجسد بقوة العقل، في بداية مئويته الثانية.
اليهودي الألماني
السبت الماضي، احتفل هنري كيسنجر بعيد ميلاده المئة، وُلِدَ هذا اليهودي الألماني في 27 أيار (مايو) 1923 في فورث في بافاريا، وفي سن الـ15 لجأ مع عائلته إلى الولايات المتحدة، ثم التحق بالاستخبارات العسكرية والجيش الأميركي، ودرس في جامعة هارفرد، حيث كان طالباً لامعاً، ثم عمل في التدريس، بعد حصوله على الدكتوراه، بعد ذلك أسند إليه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون منصب مستشار الأمن القومي، ثم وزير الخارجية.
فرض كيسنجر نفسه على الدبلوماسية العالمية حتى عام 1977؛ إنّه أحد أبرز من تولّوا الخارجية الأميركية، خلال الحرب الباردة. ترك بصمات واضحة على المشهد السياسي العالمي، تقارب مع موسكو واستعاد زخم العلاقات مع بكين في سبعينات القرن الماضي، برؤية براغماتية للعالم، تُعدّ نوعاً من “السياسة الواقعية” على الطريقة الأميركية، أسهم في إنهاء حرب فييتنام، ولعب دوراً محورياً في مسيرة الحرب والسلام بين مصر وإسرائيل… لكن صورة الرجل ارتبطت أيضاً بصفحات مظلمة، مثل دعم انقلاب 1973 في تشيلي، أو غزو تيمور الشرقية 1975، وبالتأكيد فييتنام، والإطاحة بزعماء منتخبين ديموقراطياً وإعادة رسم حدود دول؛ لهذا يرى منتقدوه، أنّ مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان لم تكن قضية ذات أهمية قصوى لدى كيسنجر، وليست إلاّ ورقة ضغط في سياسته. وصفه السيناتور الأميركي بيرني ساندرز أنّه “أكثر وزير خارجية تدميراً في التاريخ الحديث”؛ بسبب سياساته في آسيا سبعينات القرن الماضي، واعتبره نشطاء في منصّات التواصل “مجرم حرب”، وطالبوا بمحاكمته، ووجّه كريستوفر هيتشنز مؤلف كتاب “محاكمة هنري كيسنجر”، لائحة ادعاء ضدّه، بسبب ما وصفه بـ”جرائمه ضدّ الإنسانية” خلال خدمته في الإدارة الأميركية، كقتل المدنيين في: فييتنام، كمبوديا وبنغلادش، والتخطيط لقتل رئيسي تشيلي وقبرص، وكلاهما منتخب ديموقراطياً، وتسهيل الإبادة في تيمور الشرقية، إلخ.
كما أشار الأستاذ محمد حسنين هيكل، إلى أنّ كيسنجر هو من اقترح الاستراتيجية الأميركية “الاحتواء المزدوج”، لضرب إيران بالعراق والعراق بإيران، بإشعال الحرب بينهما، عقب الثورة الإيرانية؛ لاستهلاك قوة دولتين لا يمكن الاطمئنان إليهما. عبّر كيسنجر عن ذلك بقوله: “هذه أول حرب في التاريخ أتمنى ألّا يخرج منها منتصر، بل أن يخرج طرفاها مهزومين!”.
عرّاب السياسة
إنّه عرّاب السياسة في العصر الحديث، لا يجمع الخبراء على حبه أو كرهه، لكنهم يحفظون له حقوق “الملكية الفكرية الدبلوماسية”، في التعامل مع أحلك وأصعب “المنعطفات” والأحداث العالمية؛ لذلك لم ينطفئ بريقه حتى اللحظة. كتب مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق كتاب “سيّد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط”، ساق فيه الأسباب التي جعلت كيسنجر يحظى بتلك المكانة في الشرق الأوسط والعالم، من خلال نهج الدبلوماسية المكوكية. وبرغم مغادرته مناصبه الرسمية، طوال العقود الأربعة الماضية، ظلّ شخصية ذات نفوذ وثقل في السياسة الدولية، يقدّم “استشارات جيوسياسية” لعشرات من القادة والحكومات في أنحاء العالم، من خلال شركته الاستشارية “كيسنجر أسوشيتس”. ولم يمنعه التقدّم في السن، عن الإدلاء بآرائه حول القضايا الجيوسياسية، في مقالات أو مؤلفات أو حوارات عبر وسائل الإعلام، كان هو من فتح الباب للعلاقات الأميركية- الصينية، وتنبأ بأن تصبح الصين قوة عالمية.
لكن بعض نبوءاته لم تَصدق- أو لم يأتِ أوانها بعد- فقد صرّح لجريدة “ديلي سكيب” الأميركية، أنّ الحرب العالمية الثالثة على الأبواب، وإيران ستكون هي ضربة البداية في تلك الحرب، التي سيكون على إسرائيل خلالها أن تقتل أكبر عدد ممكن من العرب وتحتل نصف الشرق الأوسط، لافتاً إلى أنّه عندما تتحرّك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون (الانفجار الكبير) والحرب الكبرى قد قامت، ولن تنتصر فيها سوى قوة واحدة هي إسرائيل وأميركا. وأضاف: طبول الحرب تدقّ بالفعل، والأصم فقط هو من لا يسمعها!.
وفي موقف مناقض، بدا كيسنجر في المعسكر المضاد للحرب في أوكرانيا. في الخريف الماضي، دعا إلى إنهاء الحرب وعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وتخلّيها عن القرم لموسكو، وتحقيق سلام تفاوضي؛ لتجنّب اندلاع حرب عالمية ثالثة “مدمّرة”… تصريحات كيسنجر أثارت انتقادات أوكرانية حادّة، اتهمته بمحاولة “استرضاء المعتدي”. قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: “تقويم السيّد كيسنجر لا يشير إلى عام 2022، إنما إلى عام 1938″؛ مشيراً بذلك إلى اتفاق بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في عام 1938 في ميونيخ، لمنع أدولف هتلر من احتلال أراضي تشيكوسلوفاكيا، في محاولة فاشلة لإقناعه بالتوقف عن التوسع في أوروبا. وقد تكفّل كين ليبيرثال العضو السابق في مجلس الأمن القومي وأحد مساعدي كيسنجر، بالردّ على زيلينسكي، قائلاً: “يمتلك كيسنجر رؤية واضحة حيال ما يجب القيام به؛ للانتقال من مرحلة إلى أخرى، بعقلانية بعيداً من العواطف”.
مرحلة خطيرة
يحرص كيسنجر على الاهتمام بالقضايا الأساسية المؤثرة على مستقبل البشرية، ومن بينها “أخطار الذكاء الاصطناعي” التي تتعاظم مع التقدّم التكنولوجي. وضع كيسنجر هذه الأخطار في منزلة مماثلة لخطورة الأسلحة النووية. عام 2018، نشر مقالاً في موقع “ذي أتلانتيك”، تساءل فيه عن الأثر الذي ستخلفه في التاريخ آلات تتعلّم ذاتياً، وتحوز المعرفة لبلوغ أهداف تستعصي على القدرة البشرية؟… وفي شباط (فبراير) الماضي، شارك كيسنجر إثنين من أكبر رواد التكنولوجيا، مقالة نُشرت في “وول ستريت جورنال” حول خيارات تلك الآلات الذكية المسيطرة في المستقبل والاحتمالات المخيفة أمام البشر؟ وهل سيلقى البشر مصير “الإنكا” حين واجهتهم الثقافة الإسبانية التي استعصت على فهمهم وبثت الرعب في أوصالهم؟ منبّهاً إلى أننا أمام مرحلة جديدة وخطيرة من التاريخ البشري.
إنّ الدكتور كيسنجر أحد أشهر أباطرة الحكم والسياسة، استعرض فى كتابه “النظام العالمى”، تاريخ العلاقات الدولية، منذ “صلح ويستفاليا”، واستقصى توقعاته لمستقبل النظام العالمي الجديد… ولا يزال السياسيون والخبراء في العالم يناقشون آراءه وأفكاره. وصف “الثعلب العجوز” مواقفه المثيرة للجدل بأنّها “تمثل القيادة الإستراتيجية، التي هي عبارة عن السير على حبل مشدود، أي ما بين اليقين النسبي للماضي وغموض المستقبل”.
أيضاً ترك هنري كيسنجر إرثا مؤسسياً مهمّاً، تمثل فى تغيير طبيعة مجلس الأمن القومى الأميركى، إضافة إلى مؤلفاته وإسهاماته الأكاديمية والفكرية الواسعة. نشر موقع ويكيليكس “مراسلات كيسنجر”، وتضمّ 1.7 مليون وثيقة، منها 205 آلاف و901 وثيقة، كتبها كيسنجر عندما خدم من 1973 إلى 1976. وبعد أن تخطّى المئة من عمره، ما زال يضرب المثل في الدأب والإنجاز والبصيرة والحضور على منصّة السياسة العالمية، يعمل 15 ساعة يومياً، مع أنّه فَقَد البصر في إحدى عينيه، ولا يسمع جيداً.
يقول كولردج: “إنّ أية حياة مهما كانت تافهة ستكون ممتعة؛ إذا رُويت بصدق”، فما بالك لو كانت حياة مفعمة بالجدّ والشغف والعطاء مثل حياة كيسنجر؟.
المصدر النهار العربي