فؤاد مسعد
تمهيد
ارتبط وجود أتباع الزيدية الذين قدموا من بلاد الرس إلى اليمن أواخر القرن التاسع الميلادي بالنظرية الهادوية، نسبة إلى صاحب النظرية يحيى بن الحسين، الملقب بـ”الإمام الهادي”، وهو أول من قدم اليمن، وخاض سلسلة من الحروب والصراعات من أجل السلطة واحتكار تمثيل الدين والدنيا، وكذلك فعل أبناؤه وأحفاده وأقاربه وأتباع مذهبه وفكرته من بعده.
ينتسب أتباع الهادي إلى المذهب الزيدي (نسبةً إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، بيد أن التأثير الذي أحدثه الهادي يحيى بن الحسين جعل زيدية اليمن يوصفون بالهادويين، بالإضافة إلى أن تأثير الفرقة الجارودية الزيدية فيهم جعلهم جاروديين، فهم هادويون جاروديون، يقول العلامة والمؤرخ اليمني نشوان الحميري “ليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية”(1) .
ونتيجةً لارتباط الزيدية في اليمن بالفرقة الجارودية من جهة وفكرة الهادي ونظريته من جهة ثانية فقد ظلت الصراعات تطبع حياة اليمنيين منذ قدوم ابن الحسين وإطلاق نظريته التي أسست للحروب الدامية والصراعات المستمرة، وأصبغت على تلك الصراعات صبغة دينية بأنْ جعلت كل طرف من أطراف الصراع يعتقد أنه الوصي على الدين والممثل الشرعي والوحيد للشريعة الإسلامية، وبالتالي فحربه على خصومه مقدسة وهي جهاد وفرض على أتباعه، وهذا جعل الصراع مستمرا ومتواصلا، بل إن الصراع في أكثر الأوقات كان ينشب بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نظرية الإمامة بعمومها استلهمتها الزيدية من رؤية الشيعة لفكرة الإمامة، وهي الفكرة التي تبلورت لديهم بعد سنوات طويلة من سيطرة الأمويين على الخلافة الإسلامية، حيث يذهب صاحب كتاب “تطوّر الفكر السياسي الشيعي”، إلى أن “نظريَّة النص وتوارُث السُّلطة في أهل البيت فقط، لم يكن لها رصيد لدى الجيل الأول من الشيعة، ومن هنا فقد كانت نظرتهم إلى الشيخين أبي بكر وعمر نظرة إيجابية؛ إذ لم يكونوا يعتبرونهما غاصبين للخلافة التي تركها رسول الله شورى بين المسلمين، ولم ينص على أحد بالنصوص”(2) .
وتبلورت معظم نظريات الإمامة عند الشيعة في العصر العباسي، أي بعد القرن الهجري الأول، وكان أتباع الزيدية ممن خاضوا غمار تلك النظريات فظهر موقفان للزيدية في الإمامة، تمثل الأول في القول بحصر الإمامة في البطنين، وهو ما قالت به الفرقة الجارودية التي أسسها “أبو الجارود زياد بن المنذر”، الذي اعتبر مسألة الإمامة قطعية، وأنها في الإمام علي بالنص الجلي، وأضاف أنها لا تجوز في غير أبناء الحسنين، ووافقه على ذلك بعض الزيدية، وعُرفوا (بالجارودية) التي تمثل الجانب الأكثر تشدداً في فكر الزيدية، وقد بعدت عن الأصول التي قال بها زيد بن علي(3) ، واقتربت كثيراً من أفكار الشيعة الإمامية الاثني عشرية، سيما فيما يتعلق بالموقف من الإمامة، ومعروف أن مؤسس الجارودية أبو الجارود إمامي المذهب ولكنه فيما بعد أعلن التحاقه بالزيدية.
وتمثل الموقف الثاني في موقف كل من الفرقتين الزيديتين الصالحية التي أسسها الحسن بن صالح، والسليمانية التي أسسها سليمان بن جرير، حيث ترى الصالحية “أن الإمامة خاضعة لأنظار العارفين، وأنها تجوز في سائر الناس وإن كانت في أهل البيت أولى إذا توفرت سائر شروطها”(4) ، وترى السليمانية أن الإمامة شورى فيما بين الخلق، ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين”(5) .
ويلاحظ الباحثون في تاريخ الزيدية أن فرق الزيدية اختلفت في اشتراط الانتساب إلى الحسنين (الحسن والحسين)، فالتيار الجارودي، تمشيًّا مع أصل فكرته في (إلهية الإمامة) رأى أن الانتساب إلى الحسنين شرط لصلاحية الإمام، فلا يصح عندهم إمام مهما بلغ من الكفاءة والصلاح إن لم يكن كذلك. أما غير الجارودية من الزيدية (كالصالحية والسليمانية) فيرون أن الإمامة جائزة في كل الناس، ولا شرط لها غير ما يتوقف عليه القيام بمسئوليتها(6) ، وجاءت هذه الاختلافات نتيجة تعرض الزيدية نفسها للانقسام والتعدد بعد مقتل زيد بن علي في معركته مع الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سنة 121هـ، ومن المؤرخين من قال إن الزيدية انقسمت إلى ست فرق، ومنهم الأشعري وابن المرتضى، واتفق البغدادي والشهرستاني والرازي على انقسام الزيدية إلى ثلاث فرق لكنهم اختلفوا في مسميات هذه الفرق، وفيما قال الخمي إن الزيدية انقسمت إلى فرقتين فقد نقل المسعودي عن الوراق القول إنها انقسمت إلى ثماني فرق(7) .