علي الصراف
لا يواجه العرش الأردني تحديا أمنيا يهدد بقاءه. ولكنه يواجه متغيرات في الولاء العشائري، دافعها اقتصادي بالدرجة الأولى، وسياسي بالدرجة الرابعة. أما الدافع الثاني، فهو أن العلاقة العشائرية مع إرث الولاء للأسرة الهاشمية لم تستقر كولاء وطني. وأما الدافع الثالث، فهو أن جيل المدينة لم يعد كما كان جيل البداوة والريف. وهذا مصدر نقمة آنية، ونعمة مستقبلية في آن واحد.
التكوين الاجتماعي المتعدد، بين عشائر “أصلية”، ومهاجرين من الشركس والشيشان والأرمن، ولاجئين فلسطينيين توطنوا، هو واحد من أهم مصادر المنعة التي تحمي العرش الهاشمي. فهو بيئة اجتماعية لا غالب فيها. بينما تضمن الأسرة الهاشمية أنه ليس فيها مغلوب.
العشائر دأبت، على مر الوقت، على أن تُظهر ولاءها للعرش في الضراء أكثر مما في السراء. لأنها تدرك ضمنيا أن صيغة التعايش هي التي صنعت من الأردن مملكة قادرة على أن تعبر جسور الأيام وتحدياتها السياسية والديمغرافية. ولكن، غالبا ما كانت “الضراء” سياسية وأمنية، لا اقتصادية.
الأردن، الذي ظل يبدو وكأنه أضعف القوى الإقليمية المحيطة بإسرائيل، كان في الواقع أقواها، بفضل التماسك الاجتماعي حول هوية أردنية جديدة، نضجت بين أيدي الهاشميين، واستقلت في كيان، كان يمكن، من دونهم، أن يُصبح نهبا للريح.
◙ هذا الجيل، لا يعطي من الاستقرار والولاء ما كانت تعطيه العشائر. وهو برغم امتداد انتمائه إلى تلك العشائر، فإنه يدير لها ظهره، بمقدار ما يدير ظهره للنظام. فيبدو قوة ناشزة، من جهة، وتردد، من جهة أخرى
المكانة التي حفرها الملك الراحل الحسين بن طلال، في علاقاته الدولية وتوازنات علاقاته الإقليمية، عززت مكانة الأردن، وحصّنته من أن يكون بطنا رخوا لاعتداء إسرائيل وأطماعها التوسعية أو حتى أن تجعله “حلا” لمشكلتها مع الفلسطينيين. وكان ذلك بمثابة سند إضافي لاستقرار البلاد وهويتها وعرشها في آن معا.
الاقتصاد الأردني هش. ولولا المساعدات الخارجية والتسهيلات من دول الجوار، لكانت البلاد في وضع عسير. هذا الوضع جاء أخيرا عندما أصبحت الأزمة عامة، لتشمل القادرين وغير القادرين على تقديم الدعم. التضخم وارتفاع الأسعار ظاهرتان عالميتان الآن. وعدم كفاية الموارد المحلية في الأردن جعل التعويض مستحيلا إلى حد بعيد، من دون ثمن يدفعه كل المواطنين.
هذا الوضع هو أول ما فتح الثغرات في الولاء العشائري، لاسيما بين الذين يعتبرون أنفسهم أقل حظوة من آخرين، في جنوب البلاد على نحو خاص.
ولكن، ففي حين تمكن الأردن بشق الأنفس أن يتغلب على عواقب تفشي وباء كورونا، فقد كانت صدمة الحرب في أوكرانيا ثقيلة على برامجه للإصلاح الاقتصادي.
تقرير “المرصد الاقتصادي للأردن” الذي أصدره البنك الدولي في ربيع العام 2022 أشاد بما اعتبره “نموا قويا” في العام 2021 بفضل “التوسع الكبير في قطاعي الخدمات والصناعة، والانتعاش في قطاع السفر والسياحة”. وكذلك بفضل “ضبط أوضاع المالية العامة (…) بزيادة النفقات الرأسمالية والاستثمار في إنعاش النشاط الاقتصادي”، إلا أنه لاحظ أيضا أن الانتعاش لم يؤد إلى خلق فرص عمل جديدة. وظل معدل البطالة عاليا، حتى بلغ حوالي 23 في المئة في نهاية عام 2021.
وها هنا يكمن أول مصدر من مصادر الزعزعة. الولاء صار يتطلب استثمارات فيه. هذا معنى جديد، يخرج عن معاني الولاء السياسي القديمة. وحيث أنه ولاء “أسري” أكثر منه ولاء وطنيا، فإنه ظل ينظر إلى الأسرة الهاشمية على أن تأتي هي بالحلول، وإلا..!
هذه مفارقة. ولكنها هي الواقع. العشائر الأردنية، لا تقرأ حسابات الدخل الوطني. ولكنها تقرأ حسابات الولاء السياسي للعرش الهاشمي، وتطالبه بالدعم، بدلا من أن تطالب الرأسمالية المحلية، محدودة القدرات، بأن تعمل أكثر لأجل توفير مواطن الشغل، وبدلا من أن تطالب الحكومة لكي توفر المزيد من الموارد لتقديم الخدمات، لأنها عندئذ، ستكون معنية بالأرقام والحقائق، بينما هي تتكئ على وسادة “الولاء” لكي تغني عن نفسها أن تفعل ذلك.
هذه المفارقة هي التي تجعل الحديث عن “الفساد” في الأردن، وكأنه يؤشر إلى فوق. رغم أن الحكومات المتعاقبة ظلت تثبت أن مكامنه، تحت، وإنها تحاربه. ولكنه “مؤشرُ مطالب” تتجاوز الحقائق بالأحرى، وليس مؤشر تدقيق في الحقائق.
◙ العشائر دأبت، على مر الوقت، على أن تُظهر ولاءها للعرش في الضراء أكثر مما في السراء. لأنها تدرك ضمنيا أن صيغة التعايش هي التي صنعت من الأردن مملكة قادرة على أن تعبر جسور الأيام
التلميحات السياسية، وإن ظلت تتجنب الإشارة المباشرة إلى العرش في هذا الشأن، إلا أنها ظلت تغازل الإشارة غير المباشرة. لماذا؟
لأن الطبيعة المدنية للأحزاب السياسية، فتحت أمامها أبواب المشاركة في الحكومة، لتكون صانعا مباشرا للقرار، فلم تصنعه بالكفاءة المنشودة. ولأنها تصادمت مع الحقائق فلم تجد مخرجا من ضغوطها. ولكن ظل التلميح مفيدا لها، على سبيل التبرير للفشل.
العشائر الأردنية وجدت الطريق إلى مؤسسة الدولة لتكون شريكا مماثلا. إلا أنها ظلت تعتقد أن الشراكة، هي شراكة منافع، فإذا شحتْ، شحَّ معها الولاء. وهو ما وقف وراء حقيقة أن العلاقة مع إرث الولاء، انقلبت من إرث سياسي وولاء ديني، إلى إرث مصالح وبحث عن امتيازات يتعين على الأسرة الهاشمية أن ترعاها.
جيل المدينة من جانب آخر، يريد كل شيء. وحيث أن الشباب هم الفئة الأكثر عرضة للضرر، حيث تتفشى البطالة بين صفوفهم بنسبة أعلى، فإن ولاءهم للنظام كله يتزعزع.
هذا الجيل، لا يعطي من الاستقرار والولاء ما كانت تعطيه العشائر. وهو برغم امتداد انتمائه إلى تلك العشائر، فإنه يدير لها ظهره، بمقدار ما يدير ظهره للنظام. فيبدو قوة ناشزة، من جهة، وتردد، من جهة أخرى، أصداء المطالب ذاتها التي تدفع إلى زعزعة الولاء.
الموضوع، من هذه الزاوية، لم يعد مرتبطا بالمال الذي يسترضي الناس أو بتوازنات الشرق أردني والفلسطيني، أو “الأصيل” مع الغريب. إنه موضوع يرتبط بآليات استقرار جديدة لم تعثر المؤسسة على سبيل لإعادة بنائها.
الأوضاع الاقتصادية الصعبة الراهنة، سوف تزول إن عاجلا أم آجلا، بالمزيد من المساعدات الخارجية والتسهيلات الإقليمية. ذلك لأن استقرار الأردن حجر زاوية كبير للاستقرار الإقليمي نفسه. ولكن ما لا مفر منه، هو أن تعيد المؤسسة حسابات الولاء على أساس جديد. الولاء للأسرة الهاشمية، لم يعد يكفي. الولاء الوطني هو الذي يتعين أن يُجبر العشائر على أن تتعامل مع الحقائق والإمكانيات المادية، فلا تعاتب، ولا تلـمح.
جيل المدينة، الذي ظل ضائعا، هو ما يجب أن توضع على أكتافه رهانات التجديد.