جوناثان جورنال
يستغل اليمينيون الانتهازيون من عينة نايجل فاراج الإحصاءات الدورية عن السكان في بريطانيا لإثارة موجة خوف من المهاجرين.
يتم إجراء تعداد للسكان في إنجلترا وويلز من قبل مكتب الإحصاءات الوطنية كل 10 سنوات، والغرض منه هو رسم صورة ديموغرافية دقيقة للسكان بهدف المساعدة في تخطيط وتمويل وإدارة الخدمات العامة. وأظهر التعداد الأخير، الذي نُشر مؤخرا، أن النسبة المئوية للأشخاص في إنجلترا الذين يُعرفون أنفسهم على أنهم من أصحاب البشرة البيضاء في انخفاض مستمر، في حين أن عدد الذين ينتمون إلى مجموعات عرقية أخرى مستمر في الارتفاع. وللمرة الأولى، سجل أقل من نصف السكان أنفسهم كمسيحيين، في حين ارتفع عدد المسلمين.
بادر اليمينيون الانتهازيون في بريطانيا بنشر خطاب الخوف والكراهية، واستغلوا فكرة الخلافات العرقية لزرع الانقسام في المجتمع البريطاني.
ومن أبرز الأسماء في هذا السياق نايجل فاراج الذي صمم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واستطاع بمفرده إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال إقناع جزء كبير من الناخبين بفكرة أن كل مشاكلهم يمكن أن تُعزى إلى المهاجرين.
في مقطع فيديو تحريضي نُشر على تويتر، ادعى فاراج أن التعداد أظهر أن “برمنغهام ومانشستر ولندن كلها الآن مدن يعد فيها البيض أقلية”. وأضاف فاراج، الذي وصف الهجرة بـ”الغزو”، أنه إلى جانب حقيقة أن “46 في المئة فقط ينتمون إلى الدين المسيحي… هناك تغيير هائل في هوية البلد وذلك بسبب الهجرة”.
وبالفعل ارتفع عدد المسلمين في البلاد، ولكن بشكل طفيف من 2.7 مليون في عام 2011 إلى 3.9 مليون في عام 2021.
القضية الحقيقية هي أن الإنجليز البيض يديرون ظهورهم للدين بأعداد كبيرة، وانخفض عدد المسيحيين من 33.3 مليون في عام 2011 إلى 27.5 مليون، في حين ارتفع عدد من يقولون إنهم لا دين لهم من 14.1 مليون إلى 22.2 مليون.
نايجل فاراج: برمنغهام ومانشستر ولندن كلها الآن مدن يعد فيها البيض أقلية
كما كان فاراج مخطئا تماما بشأن عدد السكان من أصحاب البشرة البيضاء الذي يقطنون المدن البريطانية، إلى درجة أن مكتب الإحصاءات الوطنية أصدر بيانا حول “الادعاءات غير الدقيقة”.
ولئن كان من المهم تصحيح مثل تلك الأكاذيب، فإنه لا يوجد سوى ردّين صحيحين على من يحاول دق ناقوس الخطر بسبب تغيير إنجلترا للونها ببطء، ولكن بثبات.
الرد الأول هو “ماذا في ذلك؟”.
فرؤية الناس من منظور فاراج ومن هم على شاكلته، والذين لا يرون سوى العرق واللون والدين ويعتبرون كل جانب من جوانب الهوية الشخصية إذا اختلف عن هويتهم تحديا لوجودهم، هي اعتبار غير صحيح.
والرد الثاني هو “حسنا، كنت تعرف أن هذا هو ما ستؤول إليه الأمور”.
هل تذكر الإمبراطورية البريطانية؟ لقد ذهب البريطانيون إلى أراض بعيدة واستحوذوا عليها ونهبوا خيراتها، وفيما بعد أعطوا بعض “رعاياهم” الجدد جوازات سفر بريطانية، ليس بدافع حب فعْل الخير، وإنما لأنهم كانوا بحاجة إلى عمالة رخيصة.
وبناء على ذلك جاءوا، وقاموا بالأعمال التي لم يرغب أي شخص أبيض في القيام بها، وأنجبوا أطفالا، والآن أطفالهم ينجبون أطفالا، وهو ما يعيدنا إلى ذلك الرد الآخر: “ماذا في ذلك؟”.
لا يمكن لأي مجتمع بشري أن يحاكي المتاحف، التي لا تغيرها مرور الأيام، ويجب حمايتها من التغيير كما لو كانت مباني تاريخية. وإنجلترا ليست استثناء، وبالنظر إلى تاريخها لا ينبغي أن تتوقع أن تكون كذلك.
حتى قبل موجات الهجرة الكبيرة من المستعمرات السابقة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كان تعريف “الهوية الإنجليزية” مستحيلا دائما.
فتحليل الحمض النووي لأي شخص بريطاني عادي هو أمر معقد، بل من بين الأكثر الأحماض النووية تعقيدا في العالم، وذلك بسبب دماء الموجات المتتالية من الغزاة والتجار والمهاجرين والعبيد واللاجئين التي ضخت أعدادا كبيرة من البشر بدءا من الرومان.
ولكن هذا هو مربط الفرس. فحتى الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أصولهم المتنوعة واختلاف أسباب مجيئهم إلى بريطانيا، كان لدى كل هؤلاء الأشخاص شيء واحد مشترك، وهو أنهم جميعهم يشبهوننا بصورة عامة.
وتغير كل ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بحثت بريطانيا في مستعمراتها السابقة عن اليد العاملة التي افتقرت إليها واحتاجتها للشروع في إعادة بناء مدنها المحطمة.
ومنح قانون الجنسية البريطانية في عام 1948 رعايا الإمبراطورية الحق في العيش والعمل في المملكة المتحدة. ونتيجة لذلك، جاء مئات الآلاف إلى بريطانيا في حقبة الخمسينات، ومعظمهم من الهند وباكستان وجزر الهند الغربية. واستمرت الهجرة، واتسعت منذ ذلك الحين، مع استعداد المهاجرين لامتهان الوظائف ذات الأجور المنخفضة التي لا يريدها أي شخص آخر.
◙ بريطانيا تحتاج الآن إلى المهاجرين بنفس القدر أو حتى أكثر مما كانت عليه في سنوات ما بعد الحرب، وذلك ليس فقط ليحلوا محل العمال الموسميين ذوي الأجور الرخيصة من الاتحاد الأوروبي
بالنسبة إلى الكثيرين، فإن العمل منخفض الأجر هو مجرد نقطة انطلاق، وربما يكون الجيل الأول قد نظف الشوارع وقاد الحافلات، لكن أبناءه وأحفاده يعملون اليوم أطباء ومحامين. إنه لأمر رائع وجدير بالاحتفال أن يكون لدى المملكة المتحدة اليوم رئيس وزراء من أصل هندي، والذي يقود حكومة تضم وزراء آخرين من أصل هندي وأفريقي وعراقي كردي.
ولم تكن “إنجلترا” أبدا بلدا بعيدا عن التغيير، ولم تكن أبدا موطنا لعرق “واحد” من الناس، وبالنسبة إلى السياسيين اليمينيين المتطرفين والمتشاجرين مع الجماهير مثل فاراج، فإن الإشارة إلى ذلك هي أمر مثير للسخرية وبالغ الخطورة أيضا.
وتحتاج بريطانيا الآن إلى المهاجرين بنفس القدر، أو حتى أكثر مما كانت عليه في سنوات ما بعد الحرب، وذلك ليس فقط ليحلوا محل العمال الموسميين ذوي الأجور الرخيصة من الاتحاد الأوروبي والذين لم يعد يسمح لهم بالعمل في مزارعها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك لام حزب “استقلال المملكة المتحدة”، الذي يتزعمه فاراج، المهاجرين على كل شيء؛ بدءا من نقص المقاعد المدرسية ومرورا بالخدمات الصحية الوطنية المتعثرة ووصولا إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور. وانتشر ذلك الموقف وانعكس منذ ذلك الحين على سياسات الحكومات الخائفة من فقدان دعم الناخبين اليمينيين.
وأوجد فاراج وحلفاؤه الآن وسيلة جديدة لإصلاح المملكة المتحدة، وهو حزب يركز -كما كان متوقعا- على الهجرة. ومن الواضح أن دعم ذلك الحزب آخذ في الازدياد.
فقط أحمق أو عنصري أو شخص يأمل في بثّ واستغلال مخاوف الحمقى والعنصريين يمكن أن يزعم أن الهجرة لم تكن مفيدة لبريطانيا. ولسوء الحظ لم تكن فئة “أحمق” أو “عنصري” من ضمن الفئات المتاحة للمشاركين في التعداد السكاني الأخير.
المصدر العرب اللندنية