كريتر نت – متابعات
يشهد إقليم دارفور في غرب السودان حالة من السيولة الأمنية والسياسية قادت إلى زيادة معدلات الاشتباكات القبلية في مناطق متفرقة خلال الفترة الماضية، وأسفرت عن مقتل المئات وتشريد عشرات الآلاف من المواطنين مؤخرا دون أن تتمكن السلطة المركزية من فرض السيطرة الكاملة على الأوضاع، في ظل تداخل الأبعاد القبلية مع السياسية بما يجعل الإقليم في مهب الفوضى الشاملة.
ولم يفلح مؤتمر الصلح الذي عقد مؤخرا بين قبيلتي “الرزيقات” (عربية) و”الفلاتة” (ذات جذور أفريقية) -والذي جرى برعاية حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي وقوات الدعم السريع- في إعادة الهدوء إلى المناطق التي شهدت اشتباكات مطلع الشهر الجاري، مع فداحة الخسائر التي تعرضت لها قرى عديدة وعدم قدرة الحكومة على تعويض المتضررين ما خلق احتقانا ممتدا، أخفقت في تخفيضه محاولات التهدئة.
وقدرت الأمم المتحدة ضحايا الاشتباكات في إقليم دارفور بأكثر من 1000 قتيل ونزوح أكثر من 50 ألف شخص من ديارهم وتدمير العديد من المنازل ونهب الماشية مؤخرا.
وتشير معلومات قبلية إلى أن الاشتباكات اندلعت بسبب نزاع حول ملكية أراض، وأراد أحد الأهالي منع شخص من حرث أرضه فتطور الخلاف، وعادة ما تكون مثل هذه الأمور ذات خلفية ترتبط بالنزاع على الثروات والمعادن وتؤدي إلى نشوب الصراع القبلي في إقليم دارفور من وقت إلى آخر.
وسبقت تلك الاشتباكات أحداث مشابهة قبل شهر ونصف الشهر في ولاية غرب دارفور، إذ أسفرت مواجهات بين قبائل عربية وقبيلة “المساليت” الأفريقية عن مقتل أكثر من 200 شخص، وتكرر الموقف عدة مرات في الفترة الماضية، واتخذ منحى تصاعديا منذ الانقلاب العسكري على السلطة المدنية في أكتوبر الماضي.
ولم تفلح محاولات عقد مصالحات في إخماد الأزمات بصورة سريعة، لأنها تتجاهل جذور الصراع، ولا تعمل على سد الفراغ الأمني الذي لم تستطع القوات النظامية ملأه مع إنهاء مهمة قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في بداية العام الماضي.
وأكد الأمين العام لهيئة محامي دارفور الصادق علي حسن أن جلسات الصلح أضحت نمطاً تبحث عنه القيادات الأهلية كلما وقعت اشتباكات، بهدف الحصول على أموال كجزء من التعويضات، وتحصل على نسب منها وإن لم تكن تضررت بشكل مباشر، ما يجعل الإقليم أمام نمط لتحصيل الأموال والبحث عن مكاسب سياسية ليست لها علاقة بحل الأزمات الحقيقية بشكل جذري.
وقال في تصريح لـ”العرب”، “بغض النظر عن الجهة الراعية لاتفاق الصلح (قوات الدعم السريع) فإنه يتحول إلى مساعي لترضية منتسبي القبائل من أجل تهدئة الأوضاع بشكل مؤقت، وهؤلاء يوظفون الجلسات لتسويق أنفسهم سياسيًا وكسب ثقة السلطة المركزية، ما يؤدي إلى تحول النزاعات على ملكيات الأراضي إلى مشكلات تتخذ أبعاداً سياسية”.
ونصت التوصيات التي تليت في جلسة الصلح الختامية في نيالا، الاثنين الماضي، على إهدار دم كل من تورط في السرقة من أبناء القبيلتين (الرزيقات والفلاتة) والقبائل الأخرى، ووقف العدائيات وخطاب الكراهية، وتكوين آلية مشتركة بين الأمراء وقوات الدعم السريع لتنفيذ الاتفاق، ووضع خطة أمنية محكمة لمنع الانفلات الأمني.
وتكمن مشكلة جلسات الصلح في أنها لا تحمل صفة الإلزامية، ولا يوجد طرف يستطيع تحمل نتائج الخسائر التي سببتها الاشتباكات مع اتساع رقعتها، وهو ما جعل البعض يصفها بأنها اتفاق “صفري”، أي عديم الجدوى.
كما أن رعاية قوات الدعم السريع للاتفاق أوجدت شكوكاً في تنفيذه بعد تردد معلومات تفيد باشتراك عناصرها في اشتباكات وقعت مؤخرا، ما يفقدها صفة الوسيط النزيه.
وأشار علي حسن لـ”العرب” إلى أن إقليم دارفور يواجه أزمات أكبر من قدرة جلسات الصلح على إيجاد حل، لأن الصراع الدائر تستخدم فيه أسلحة ثقيلة وسيارات دفع رباعي وبنادق آلية وبنادق صيد بدائية كان من المعتاد رؤيتها في السابق، وهو ما يؤدي إلى تدمير قرى وحرق بعضها.
وجاءت هذه الأسلحة نتيجة دخول عناصر الحركات المسلحة من دول تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر عبر الحدود المشتركة، حيث تنتشر الأسلحة الثقيلة والعصابات.
وانعكس الأمر على طبيعة الأوضاع في دارفور مع اتجاه تلك العناصر إلى عمليات السلب والنهب للحصول على المعادن والذهب المتوافريْن في مناطق غرب دارفور.
وتظل الأبعاد السياسية طاغية على الاشتباكات،لأن القبائل العربية التي تتبع لها قوات الدعم السريع متهمة بمحاولة التوسع للسيطرة على الثروات والمعادن في ظل الأزمات الاقتصادية الحادة التي تعاني منها البلاد، ولدى أبناء دارفور من القبائل الأفريقية قناعة بأن قوات الدعم السريع تؤجج الصراع وتتدخّل فيه بأشكال مختلفة، على الرغم من نفي قادتها المستمر.
ولفت المحلل السياسي محمد تورشين في تصريح لـ”العرب” إلى أن الغياب الكامل لأجهزة الدولة في القرى البعيدة عن عاصمة غرب دارفور (نيالا) يؤكد استمرار حالة الهشاشة التي تقود إلى نشوب الصراع وعدم توقف الاقتتال.
ويظل المواطنون في حيرة من أمرهم ولا يجدون من يخاطبونه من المسؤولين لحمايتهم وتعويضهم عن الخسائر التي تكبدوها، وهو ما يعد السبب الرئيسي في استمرار الاشتباكات وعدم صمود المصالحات، وسط اتهامات متكررة لقوات الدعم السريع بأنها طرف منحاز لا يمكن الاعتماد عليه لحفظ الأمن.
محاولات عقد مصالحات لم تفلح في إخماد الأزمات لأنها تتجاهل جذور الصراع ولا تعمل على سد الفراغ الأمني الذي لم تستطع القوات النظامية ملأه
وأوضح تورشين أن المصالحات تحقق أهدافا سياسية مؤقتة لرئيس قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لأنه يسعى إلى كسب ثقة الإدارات الأهلية وشيوخ القبائل والحركات المسلحة ويظهر كوسيط يبحث عن السلام، ما يخدم مساعيه لخوض الانتخابات بعد انتهاء المرحلة الانتقالية والتواجد على رأس السلطة في الخرطوم.
وتابع “ما لم تكن هناك رغبة حقيقية من السلطة المركزية في شغل الفراغ القائم ونشر المنظومة الشرطية والعسكرية والقانونية في المناطق الملتهبة والتجرد من الانخراط في أي صراع وتقديم المتهمين إلى العدالة، فإن الدخول في معارك عبثية سيظل مستمراً وتبقى جلسات الصلح كمن يستخدم القش في إطفاء النيران”.
ويتوقع العديد من أبناء الإقليم أن يتحول الإقليم إلى منطقة مفتوحة للقتال والفوضى نتيجة تداخل أسباب القتال والتشابك الحاصل بين القبائل والحركات المسلحة والسلطة المركزية التي أضحت طرفًا في الصراع مع توالي دخول العصابات عبر الحدود المنفلتة ووجود مناطق أمنية رخوة، في حين أن بعض هياكل السلطة الحالية تستفيد من الصراعات القائمة لتقوية نفوذها، بما يصب في صالح الاتجاه نحو المزيد من الفوضى.
المصدر : العرب اللندنية