كتب : قادري احمد حيدر
الإهداء : إلى شعفل عمر علي.. القائد السياسي والوطني الكبير.
واحد من أهم رموز النضال السياسي / الوطني، في تنظيم “حركة القوميين العرب”،ومن قادة العمل العسكري والفدائي، في” الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”، وبذلك هو أحد أهم أعلام، ثورة14 اكتوبر، 1963م، المجيدة، في الضالع، والاستقلال الوطني /30،نوفمبر، 1967م، في جنوب اليمن.
شعفل عمر علي، قائد سياسي قدم للبلاد دون حدود، ولم يقل كلمة واحدة عن نفسه.
مخزن أسرار ومعلومات وذكريات عن ثورة اكتوبر، والاستقلال، وتجربة بناء الدولة في جنوب البلاد، غادرنا بصمت الكبار، وقبل أن ندون الكثير مما يستحق التوثيق.
التقيت به في منفاه الإجباري في مصر، بعد الحرب الظالمة، ” اللاوطنية”،1994م.. وبقي حتى أخر لحظة في حياته ودوداً مع الجميع، طاهر الروح، نظيف اليد، صادق القول.
لروحه الرحمة والسلام والخلود.
يعود الحديث عن فكرة أو مفهوم “الميثاق” كمفردة إلى البداية الأولى لإعلان تشكيل الجبهة القومية، في صورة ما سُمي لحظة الإعلان في 19 أغسطس 1963م (1)”الميثاق القومي”. ولا نعلم لماذا كان أو تم إلحاق كلمة “القومي”بتسمية وثيقة الميثاق، ربما لطبيعة ومضمون المد الصاعد لحركة التحرر العربية القومية ولدور مصر المركزي الذي ترك أثره على تسمية الميثاق.
وقد يعود حضور مفردة “القومي”، للدور القائد السياسي لحركة القوميين العرب في صيغة تحالف الجبهة القومية، وقد يكون عدم رغبة للفصل بين الوطني والقومي كأنهما شيء واحد. وجاءت وثيقة “الميثاق القومي” متضمنة الاتجاهات النظرية والفكرية والسياسية العامة السائدة في قلب الحركة القومية العربية بشقيها (البعث) و(حركة القوميين العرب) في التأكيد على قضية الوحدة اليمينة والعربية والعدالة الاجتماعية، وحديث عمومي عن الاشتراكية قد يكون تأثراً “بالميثاق الوطني القومي المصري” وبالناصرية كحركة سياسية فكرية كان حضورها وتأثيرها طاغياً وغالباً على قيادة حركة القوميين العرب وبخاصة في العداء للشيوعية والشيوعيين، باعتبارهم أعداء العروبة أو أعداء الوحدة العربية كما كان يتردد في أدبيات الحركة القومية العربية عموماً.
والأهم، أن ما يميز “الميثاق القومي” للجبهة القومية تأكيده على خيار الكفاح المسلح والثورة الشعبية المسلحة، الشعار السياسي والكفاحي المركزي الذي ارتبط بتشكيل وقيام “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”.
وخلال سنوات الكفاح السياسي والمسلح، كانت رؤية الجبهة القومية ومنظورها للسياسة والصراع والمستقبل الوطني تتطور بتفاعل إيجابي مع ما حولها، في الوطن والمنطقة العربية والعالم، حيث كانت راية العدالة الاجتماعية والاشتراكية طاغية وغالبة في صيغة وروحية الخطاب التحرري القومي والعالمي.
وكان تأسيس الجبهة القومية ثمرة لصراعات أيديولوجية وسياسية، وتنظيمية جارية في قيادة الحركة، لم تظهر على بنية الجبهة القومية.
وقد يعود ذلك لطبيعية المهام السياسية الاستراتيجية الكفاحية الملقاة على عاتقها في حمى الكفاح المسلح والثورة الشعبية التي استنفرت واستقطبت حالة عداء سياسية واسعة ضدها من أطراف فاعلة، ومؤثرة في العملية السياسية في جنوب البلاد، الذين رأوا في الجبهة منافساً فعلياً على تصدر زعامة المشهد السياسي والوطني، باستثناء حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي الذي كان مسانداً ومؤازراً لخط الجبهة القومية النضالي منذُ البداية.
“ففي الفترة من عام 1963م – 1965م شهدت حركة القوميين العرب مركزياً، صراعاً فكرياً ممتداً برزت من خلاله قوة الأفكار التقدمية، التي تأثرت بالمناخ الثوري السائد، والذي عبرت عنه الاتجاهات الجذرية في الجمهورية العربية المتحدة، التي ضربت ببعض اجراءاتها الاقتصادية (التأميم) الرأسمالية المستغلة، كما يصفونها وبقايا الإقطاع من خلال القوانين الاشتراكية، ومن خلال “الميثاق الوطني” في مصر.
وجاء عام 1965م ليحمل انتصار الجناح التقدمي داخل حركة القوميين العرب، الذي تمرد على الحركة، وخرج على المقاييس التنظيمية، التي قضت بالامتناع عن طرح وجهات النظر المتباينة علناً ” (2).
ويمكننا القول إن الساحة العربية شهدت هذه الاعتمالات النظرية والأيديولوجية والسياسية والتنظيمية الصراعية، من خلال التنظيمات السياسية القومية التاريخية التقليدية (البعث، حركة القوميين العرب، والاتجاهات القومية عامة).
فقد فرض المناخ الثوري التحرري العالمي نفسه على شكل ومضمون إدارة مجريات الصراع في قلب التنظيمات المختلفة (أيديولوجياً وسياسياً وتنظيمياً).
آنذاك كانت مدينة عدن قلعة ثورية تحررية تضج بكل صراعات التنظيمات والتيارات الأيديولوجية والسياسية والنقابية والعمالية منها على وجه الخصوص. وفيها وازدهرت الصحافة (فسحة من حرية القول والتعبير) عما كان قائماً وسائداً في منطقة الجزيرة والخليج، بل وفي معظم أقطار المنطقة العربية التي تتوفر فيها إمكانات الاتصال بالعالم على نحو دائم على كل المستويات (تواصل سياسي، إعلامي، ثقافي، حضاري). وكانت عدن، وحتى بعض المدن الأخرى الرئيسة (لحج، حضرموت) حالة ثورية أيديولوجياً وسياسياً وكفاحياً، ومرجلاً تغتلي وتتفاعل في داخله الطروحات والرؤى: من الارتباط بالمصالح الاستعمارية، إلى العلاقة السياسية معها وبحذر وفي حدود الخيارات السياسية العلنية، إلى العمالة الأمنية الاستخبارية، إلى الدعوة للعمل السياسي السلمي ونهج التسويات السياسية، وقضية التحرر والاستقلال عبر السياسة والعمل السياسي والمفاوضات والمؤتمرات الدستورية “اللندنية”، إلى العمل النقابي الإصلاحي المطلبي “التريديوني”، إلى العمل من خلال المجالس التشريعية (البرلمان) والاتحادات الفيدرالية وحتى طرح قضية الاستقلال، والتحرر الوطني عبر الثورة الشعبية المسلحة والكفاح المسلح.
وظهرت في هذا المناخ السياسي التعددي الاستقطابي الحاد، البشائر الأولى لعملية تحول أيديولوجية سياسية في قلب الجبهة القومية.
فجاء المؤتمر الأول للجبهة القومية من 22إلى25 يوليو 1965م ليطرح وثيقة “الميثاق الوطني”، وهي بكل المقاييس وثيقة أيديولوجية، وسياسية تاريخية متقدمة، ليس لسقف “الميثاق القومي” أي وثيقة تأسيس الجبهة، بل متجاوزة للسقف الأيديولوجي والسياسي والطبقي للجبهة القومية (قواها ومكوناتها)، وهي مسألة سنشير إليها في السياق العام للقراءة.
فقد وجه الميثاق النظر إلى الاستعمار المباشر الجاثم على صدر اليمن الجنوبي، وحدد مدلوله بوصفه “نظاماً اقتصادياً، نتاج الرأسمالية العالمية الاحتكارية المستغلة لخيرات الشعوب، وعلى هذا دعت العناصر الوطنية إلى توحيد كل قوى الثورة في جبهة واحدة لمواجهة الاستعمار.
ولما كانت الجماهير الكادحة تشكل أغلبية سكان اليمن الجنوبي، الذين يتعرضون لاستغلال الإقطاع والبرجوازية الكمبراروية، فقد أصبح من الضروري ربط النضال ضد الاستعمار بالنضال ضد المرتبطين به عضوياً، والذين يقومون باستغلال السكان وتعويقهم، عن تحقيق استقلال حقيقي” (3).
ويساعد على هذا الربط بين الاستعمار، والمرتبطين به، اقتصادياً وسياسياً، الطبيعة الاقتصادية لنشاط هذه البرجوازية الكمبرادورية/ الطفيلية، بدرجة أساسية، والتي ولدت متوحدة ومندمجة بالسوق الرأسمالية، كوسيط مالي تجاري، ولم تقم بأي نشاط اقتصادي، رأسمالي حتى شبه إنتاجي، أو خدمي، يرتبط بتنمية حياة الناس الاجتماعية والمعيشية، وفاقدة للطبيعة الوطنية.
والأنكى، أنها متوحدة بالرؤية السياسية الاستعمارية، ومتعاونة معها سياسياً، وفي جوانب أمنية، باستثناء الشرائح الدنيا منها وهي محدودة جداً.
ومن حيث شكل الكفاح الثوري المسلح، جاء الميثاق مؤكداً لما احتواه “الميثاق القومي” –الذي سبقت الإشارة إليه– بالتأكيد على خيار الكفاح المسلح، والعمل الثوري كشكل أساسي للنضال، مع استخدام كل أشكال النضال السياسي، والديمقراطي، والمدني.
وكان خيار الكفاح المسلح الموجه ضد الاستعمار، يعني ضمناً ومباشرة، إسقاط نظامه الاستعماري بما يحتويه من مكونات، متفاعلة ومتعاملة معه.
ومن هنا وحدة الكفاح السياسي بالكفاح الاقتصادي، والاجتماعي للثورة في جنوب البلاد، أي التحرير، ببعديه، السياسي والاقتصادي.
ذلك هو ما حواه وعبر عنه “الميثاق الوطني” بجلاء ووضوح في العديد من صياغاته التي حددت قوى الثورة بالعمال والفلاحين، والمثقفين الثوريين، والبرجوازية الصغيرة، والمتوسطة والطلبة، (والشباب، وكل أصحاب المصلحة في الثورة والتغيير) .
مع أن “الميثاق الوطني” كنتاج للمؤتمر الأول للجبهة القومية، مؤتمر يجري في خضم كفاح مسلح عنيف تخوضه الجبهة في ظل معارضة سياسية لهذا المنهج (من خارج الجبهة، ومن داخلها كذلك، نقصد جماعة التوحيد مع منظمة التحرير) إلا أن المؤتمر كان هاماً وحاسماً على الصعيدين، النظري (الأيديولوجي ، والطبقي)، وكذا على المستوى السياسي، والاجتماعي، في تحديده لأعداء الثورة، وقواها المحركة، وكذا على مستوى تأكيده خيار الكفاح المسلح، مع نزعة أيديولوجية وسياسية شمولية، في عدم قبول الآخر، والذي تمثل في رفض سياسي صريح للاعتراف بمنظمة تحرير الجنوب المحتل، واعتبارها تنظيماً، غير ثوري، لا يملك الحق في الوجود (4)
وهو خطاب، إلى جانب كونه يعكس رؤية شمولية ، فإنه كذلك ينطوي على حالة من غرور القوة مستمدة من قوة حضور الجبهة القومية، في الشارع، حالة ومنطق تفكير غير مقبول تركت آثاراً سياسية سلبية على مكانة وسمعة الجبهة القومية في الأوساط السياسية العامة، وهي رؤية وموقف لهما أساس بالصراع السياسي الإقصائي المتبادل بين الأطراف المختلفة، يعكس العقل السياسي الشمولي الاستبدادي لمنطق التفكير السائد لدى الجميع في تلك الفترة .
على أن الشيء الملفت للانتباه هنا ، أن ذلك الموقف الأيديولوجي والسياسي والطبقي الذي حدده، واحتواه “الميثاق الوطني” للجبهة القومية في مؤتمرها الأول، لم يثر إشكالات تنظيمية وسياسية داخل الجبهة القومية نفسها، أو أنه جرى تمريره لأسباب سياسية داخلية خاصة (لم تعلن عن نفسها).
ففي تلكم الصيغة الأيديولوجية والسياسية والطبقية التي خرج بها الميثاق الوطني استباقاً لمهمات المرحلة، وقفزاً على الكثير من معطياتها ووقائعها، سواء داخل الجبهة القومية على صعيد المهمات السياسية والاجتماعية والوطنية المطروحة أمام جبهة تحرر وطني، ضد استعمار أجنبي، ما يستدعي صيغاً وتعبيرات (مرنة) موحدة، جامعة أو متوازنة مستوعبة لموازين القوى في الداخل، والخارج (العربي والإقليمي والدولي) وفي منطقة حساسة تجاه المصالح الدولية، واصطراعاتها، التي تمر عبر المنطقة.
إن الإطار النظري السياسي التحليلي للميثاق الوطني، يبين أنه كان خطوة إلى الأمام (نظرياً وأيديولوجياً) بالمقارنة مع البرنامج الفكري والسياسي لحركة القوميين العرب، ولوثائق الجبهة القومية، رغم أن الميثاق الوطني، انعكس فيه بعض التناقض والتعارض وعدم النضوج الكافي، والتبجح في آراء القادة التقدميين للجبهة القومية.
لقد كان أهم مكسب لها – كما يرى البعض –الباحث– أن أعلن في الميثاق عن تبني الاشتراكية العلمية مما ساعد على العملية العامة لتجذير الأيديولوجيا القومية في جنوب اليمن (5).
مع أن هناك من قد يجد في ذلك القول بالاشتراكية العلمية والصراع الطبقي قفزاً على الواقع وخرقاً لبنية التطور الذاتي والموضوعي، للمرحلة كلها، باعتبار المهمات السياسية والوطنية المرحلية والتاريخية الملقاة على عاتق الجبهة القومية في ظرف سياسي حساس، وطنياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
وفي تقديرنا الخاص أن في ذلك القول بالاشتراكية العلمية والصراع الطبقي رفع للصراع الأيديولوجي إلى مرتبة أعلى فائضة عن الحاجة الوطنية، -في حينه- وهي نزعة أيديولوجية، إرادية (ذاتوية/ نخبوية) لا تحُسب للميثاق الوطني للجبهة باعتبارها تؤلب الأعداء، والخصوم، والمعارضين للجبهة.
وهو ما كان من هجوم مضاد أيديولوجياً وسياسياً في وجه هذا الخيار في قلب الصراع الدائر بين الأطراف القائمة في جنوب الوطن وحتى في شماله وفي تقديرنا أن ما خفف من وطأة وانعكاسات هذا الخطاب في تلك المرحلة، هو، أولاً: حسم الجبهة القومية خيارها السياسي والوطني، في التبني الواضح لخيار الكفاح المسلح، دون مواربة أو مناورة، ومن أول وهلة لانطلاق كفاح الجبهة، وثانياً: تأكيد الخيار صدقيته في الممارسة الواقعية، وتراكم فعله الثوري باستمرار.
ثالثاً: القاعدة الشعبية والجماهيرية الواسعة للحركة، وللجبهة جنوباً وشمالاً ورابعاً: التوسع الميداني الناجح في عمليات الكفاح المسلح في الريف والمدن ضد الاستعمار البريطاني وحلفائه وأعوانه من المخابرات.
خامساً: حالة الزخم الثوري التحرري العربي، الذي كان صاعداً في كل المنطقة، والعالم ، حيث طغيان البعد التحرري والمقاوم على الصيغة العامة للميثاق الوطني. وسادساً : فشل مشاريع التسويات والمفاوضات الدستورية (اللندنية).
والمفارقة السياسية العقلانية في الميثاق الوطني، بعد الحديث عن ” الاشتراكية العلمية ” هو النظرة السياسية الواقعية التي أعطاها الميثاق للقطاع الخاص، وتمييزه بدور هام، دون إهمال للقطاع العام، مع أن تجربة التطبيق اللاحق بعد الاستقلال، والشروع في بناء الدولة الوطنية في جنوب البلاد، جرى فيه ليس إهمال للقطاع الخاص، بل والإضرار به، كقوة اقتصادية، وكقوة تحالف اجتماعية سياسية.
وهي مفارقة تُحسب للبداية ضداً على التطور اللاحق، فقد جاء في الميثاق الوطني أن للقطاع الخاص دوراً هاماً يؤديه في شرط أن يبتعد عن الاستغلال والاحتكار، ويقتصر عمله على المجالات ضمن الحدود التي لا تسمح له بالعمل فيها، قانونياً، أو منفرداً، أو بالمشاركة، والتنسيق، مع القطاع العام بمقتضى خطة التنمية، ومخطط التنظيم الاقتصادي (6).
وهي ذات الرؤية الاقتصادية الحاضرة في التجربة الناصرية، وأدبياتها البرنامجية “الميثاق الوطني المصري”. ما يهمنا في هذه الوقفة القرائية التحليلية، هو أن الميثاق الوطني للجبهة، بطروحاته تلك، بقصد وبدون قصد، أو جرياً، وراء موضة “الجملة الثورية”، والحلول النظرية الجاهزة، كان قفزة على الواقع العياني الملموس للجبهة القومية، والقوى الاجتماعية السياسية المشكلة لها في تعارضها وتباينها، سواء في المشارب الأيديولوجية السياسية أو الانتماءات الطبقية الاجتماعية، وهي تراكمات – بقيت كامنة – لصراعات مؤجلة أو مرحّلة، شهدنا تفجرها في التطور اللاحق للجبهة تحديداً بعد الصعود إلى السلطة، والتي جرى كبتها في سياق مجرى العملية الثورية المسلحة. ذلك لأن صراعات السياسة والسلطة، والتنظيم بعد الاستقلال لها صلة سياسية واقعية بتلك القفزات الأيديولوجية والسياسية التي لم تحسب حساباً لموازين القوى داخل الجبهة القومية، ولحالة الرفض التي قد تبرز، وتتصاعد حول بعض الخيارات النظرية والأيديولوجية في واقع تنظيم قومي عصبوي، مشبع بأيديولوجية حادة (كل الشعب جبهة قومية). كما أننا نرى أن الدمج القسري 13 يناير 1966م لم يأت اعتباطاً، وخارج نطاق تصفية الحسابات مع هذا التوجه الأيديولوجي السياسي والطبقي،(محلياً، وعربياً).
حتى القول “بالاشتراكية العلمية”، في واقع بنية تنظيمية وشعبية وحتى قيادية، معادية للشيوعية، والشيوعيين، يثير كثيراً من علامات الاستفهام . إن الخيارات الأيديولوجية والسياسية والطبقية للجبهة القومية في الميثاق الوطني، وسعت قاعدة الأطراف المعادية للجبهة، وأدخلت الجبهة القومية في صراعات، ومواجهات مع الأجهزة المصرية، ومع بعض الأطراف السياسية في الداخل، وعلى الساحة العربية. فالقفز على شروط وحاجات المرحلة، سياسياً وأيديولوجياً (وطنياً، وقومياً)، وخاصة بعد موقف الجبهة القومية من نهج التسوية السياسية التي بدأت تقودها مصر والسعودية والجامعة العربية.
عرض الجبهة لضغوط عديدة ولم يكن الدمج القسري في 13 يناير 1966م، سوى واحدة من طرائق الضغط على الجبهة القومية لوضعها تحت السيطرة والتحكم، ومن هنا نفهم المحاولات من قبل الأجهزة المصرية لاختراق الجبهة القومية (علي أحمد السلامي، طه مقبل، سالم زين) وفي قيادة حركة القوميين العرب (مركزياً) التي وافقت على الدمج القسري، ووقعت عليه بعلم، وضغط النظام المصري، والجامعة العربية لأسباب عديدة .
إن وثيقة الميثاق الوطني في مجملها لم تكن تعكس رؤية موحدة داخل الجبهة القومية، لأن المؤتمر الأول يوليو 1965م جاء، سياسياً وتنظيمياً، ليرجح كفة الصف الثاني من القيادة في رؤاه الأيديولوجية والسياسية الثورية (المتقدمة) على واقع بُنية التنظيم في عمومه، والتي تكرست أكثر بعد الخروج من الدمج القسري.
إن صيغة الميثاق الوطني تعكس حالة صراعية داخل الجبهة القومية، وكما يرى فيتالي ناؤومكين ظهرت الخلافات بين “الداخل” و”الخارج” ابتداء من عام 1965م، في عمل لجنة إعداد مسودة الميثاق الوطني، وفي أعقاب الحل الوسط الذي تم التوصل إليه – لقد كان الجانبان يدركان أن تعميق الخلافات ليس في صالح نضال التحرر الوطني – جرى اتخاذ صيغة للوثيقة كان جزءاً من أحكامها، يعكس آراء جناح (الداخل) وجزءاً يعكس آراء جناح (الخارج) (7).
والحقيقة الواقعية أن كفة الداخل كانت هي المؤثرة، والسائدة في رؤى وصيغ الميثاق الوطني في العموم. وبعد هذا المؤتمر، تعاظم الدور والحضور للقادة في الداخل والذي كان القطاع الفدائي تحت سيطرتهم، وكان تأثيرهم واسعاً على مختلف القطاعات من الجميع.
ولأن المنطق الشمولي والإقصائي، وثقافة عدم الاعتراف بالآخر، موزعة على جميع الأطراف والقوى السياسية (داخل الجبهة القومية، وخارجها) حيث أن كلاً منهم يدعي أنه الأحق بقيادة الثورة احتوى الميثاق على فكرة أيديولوجية شمولية إقصائية فقد اعتبر الجبهة القومية هي وحدها الفصيل الثوري، والممثلة الوحيدة للشعب، وصولاً للقول –كما سبقت الإشارة- أن ليس من حق منظمة التحرير بالوجود.
والسؤال، أين تضع الجبهة القومية نضال المؤتمر العمالي، وحزب الشعب الاشتراكي في مقاومة المشاريع السياسية الاستعمارية، وموقفه السياسي الوطني حول رفض دمج عدن في الاتحاد، وخروج المؤتمر العمالي، وحزب الشعب الاشتراكي، وكل القوى الوطنية في مظاهرات ضد اتفاقية لندن الخاصة بالدمج بين عدن ودولة الاتحاد، وموقفهم جميعاً مع ثورة 26سبتمبر 1962م وتنظيم وحشد الجماهير الشعبية للذهاب للشمال دفاعاً عن ثورة 26 سبتمبر 1962م؟ ثم أين يضع حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي، وهو حليف سياسي استراتيجي له في قضية الكفاح المسلح؟ لقد ركزت فقط على أن من لا يخوض المعركة الفاصلة الحاسمة ضد الاستعمار بالكفاح المسلح ليس سوى عدو، وهو موقف سياسي، في تقديرنا، أضر بالتحالف السياسي الوطني، في مواجهة الاستعمار، بصرف النظر عن موقفها من خيار الكفاح المسلح، ورفضها له، بل وحتى إدانتها له.
الهوامش:
1-يحدث أحياناً خلط وتشوش في أذهان البعض بين تأريخ تأسيس وإعلان تشكيل الجبهة القومية وانطلاقة ثورة 14 أكتوبر 1963م، وكأنهما شيء واحد. والصحيح أن أول الاجتماعات لتأسيس الجبهة القومية كان في 24 مارس 1963م،حين عقد الاجتماع في دار السعادة* في صنعاء، في شكل لقاء أو مؤتمر للقوى الوطنية، حضره – 100 – ممثل من الشخصيات الوطنية المستقلة ومن حركة القوميين العرب وممثلون عن الضباط الأحرار. وقد تم التوصل في اللقاء أو المؤتمر إلى اتفاق حول توحيد جميع القوى الوطنية في جبهة وطنية واحدة (…) وفي اجتماع بتاريخ 19 أغسطس 1963م كان إقرار إنشاء الجبهة تحت التسمية التي استقر عليها، وهي “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”، وتم تشكيل قيادة الجبهة القومية من 12 اسماً أو شخصاً 6- ممثلين لحركة القوميين العرب، 6 ستة للقطاع القبلي (…) في ليلة 13 أكتوبر حدثت اشتباكات مسلحة بين رجال من تشكيل القبائل في ردفان عائدين من الشمال، مع القوات الاستعمارية التي طالبتهم بتسليم سلاحهم، ودفع غرامة مالية ، استشهد فيها راجح غالب لبوزة، واعتبر يوم استشهاده في 14 أكتوبر 1963م، يوم انطلاقة الثورة من جبال ردفان . انظر حول ذلك د. سيف علي مقبل،من كتاب تأريخ الحركة الوطنية اليمنية (منتصف الخمسينيات، حتى 1967م)، ص 248، ط1، 2004م، مركز عبادي. وحول تاريخ الاجتماع الأول يشير فيتالي ناؤومكين إلى شهر آخر قائلا إن الاجتماع كان في 14 شباط (فبراير) 1963م في دار السعادة، وهو الصحيح في تقديرنا. أنظر فيتالي ناؤومكين، كتاب الجبهة القومية في الكفاح من أجل الاستقلال، مصدر، ص 82، ويورد الأستاذ عبدالله باذيب وإتحاد الشعب الديمقراطي تأريخاً مختلفاً حيث يرى أن الإعلان كان في يونيو 1964م، انظر حول ذلك الجزء الثاني من مختارات للأستاذ عبدالله باذيب، وجهة نظر حول المرحلة الراهنة، ثورة 14 أكتوبر، طبيعتها، مهماتها، آفاق المستقبل.
2- د. أحمد عطية المصري، كتاب تجربة اليمن الديمقراطية، مصدر سابق، ص296.
3- د. أحمد عطية المصري كتاب “تجربة اليمن الديمقراطية” مصدر سابق، ص270.
4-فيتالي ناؤومكين كتاب ” الجبهة القومية في الكفاح من أجل الاستقلال” مصدر سابق، ص131 .
5- فيتالي ناؤومكين، نفس المصدر، ص131 .
6- فيتالي ناؤومكين، نفس المصدر، ص 134 .
7- فيتالي ناؤومكين، نفس المصدر، ص 124 .