نيكولا ميكوفيتش
ضاعفت التغيّرات المتسارعة في أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على البلاد مخاوف موسكو من انتشار الإسلام المتطرّف خارج الحدود الأفغانية وتدفق أعداد هائلة من اللاجئين عدا عن وصول المزيد من الهيروين الأفغاني للأسواق الروسية. وفي المقابل، كشفت تصريحات وتحركات المسؤولين الروس محاولات موسكو للاستثمار في الغياب الأميركي لتضمن لنفسها نفوذا يمكنها من حماية مصالحها في أفغانستان الجديدة.
وفي غضون أيام من استضافة مسؤولي طالبان في سفارتها في كابول، شاركت روسيا بدباباتها في مناورات بالذخيرة الحية في طاجيكستان، بالقرب من الحدود مع أفغانستان، وبينما قالت روسيا إن العالم بحاجة إلى قبول استيلاء طالبان على البلاد، تابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحذيره لقادة آسيا الوسطى بشأن ضرورة وقف انتشار الإسلام المتطرف عبر حدودهم.
ويتضح أن مغزى تلك الإشارات المتباينة إلى حكام طالبان الجدد في كابول هو سعي روسيا إلى تبنى نهج يمكنها من معالجة التهديدات الأمنية الناجمة عن سيطرة الجماعة الإسلامية والسعي للاستفادة من الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي المُخزِي.
علاقات جديدة
في حين أن موسكو ليست في عجلة من أمرها للاعتراف بطالبان كحاكم جديد لأفغانستان، إلا أنها شرعت بالفعل في إقامة علاقات جيدة نسبيا مع الحركة، ففي الوقت الحالي، ستراقب موسكو عن كثب وادي بنجشير، إحدى آخر المناطق التي لا تخضع لسيطرة طالبان. وتقع تلك المنطقة في شمال كابول وتخضع لسيطرة جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية والتي يقودها أحمد شاه مسعود ابن أسد بنجشير، وهو أحد أقوى قادة المجاهدين إبان الحرب ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان بين عامي 1979 و1989.
وقد توعد مسعود “الصغير” بالاستمرار في قتال طالبان، غير أنه أبدى انفتاحه لفكرة المفاوضات، ويُذكر أن مسعود الأكبر قد اغتيل على يد القاعدة في عام 2001، قبل أيام قليلة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
واعترف السفير الروسي في أفغانستان دميتري جيرنوف بأن وفدا من طالبان زار السفارة الروسية في كابول، حيث طالب الوفد الأفغاني الدبلوماسيين الروس بإرسال “رسالة سياسية واضحة” إلى مقاتلي المقاومة مفادها: طالبان لا تريد إراقة الدماء وتحرص على تسوية سلمية في إقليم بنجشير.
موسكو شرعت بالفعل في إقامة علاقات جيدة نسبيا مع حركة طالبان
لكن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قال للصحافيين في الثالث والعشرين من أغسطس الجاري إن موسكو “لا تنوي التدخل في الصراع بين طالبان وقوات المقاومة في أفغانستان”. وفي غضون ذلك، قالت طالبان إنها أرسلت المئات من المقاتلين إلى المنطقة، كما وردت أنباء عن اندلاع اشتباكات.
ونفت طاجيكستان بشدة التقارير التي تفيد بأنها زودت قوات المقاومة بمعدات عسكرية في الآونة الأخيرة، وطاجيكستان هي عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا، وسواء تلقت جبهة المقاومة الوطنية أسلحة من الدولة الواقعة في آسيا الوسطى أم لا، فسيكون من الصعب للغاية على مقاتليها حماية بنجشير، ناهيك عن شن هجوم ضد طالبان.
وتجدر الإشارة إلى أنه قبل أيام فقط من دخول طالبان إلى كابول، استضافت طاجيكستان قوات من روسيا وأوزبكستان لإجراء مناورات عسكرية على بعد 20 كيلومترا فقط من الحدود الأفغانية، بالإضافة إلى التدريبات التي أجريت بعد سقوط كابول، وقد كان ذلك تحذيرا واضحا لطالبان من أن منظمة معاهدة الأمن الجماعي لن تتسامح مع أي محاولة لزعزعة استقرار جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية السابقة.
وحول ما إذا كان للحركة الأفغانية مثل تلك الطموحات فإن هذه مسألة قابلة للأخذ والرد، حتى جيرنوف في مقابلته مع التلفزيون الرسمي الروسي، قال إن طالبان منشغلة بالتحديات الداخلية ولن تجرؤ على مهاجمة جيرانها. ومع ذلك، لا تزال الشكوك تساور موسكو حيال تصرفات طالبان المستقبلية، ولديها أسباب وجيهة لذلك.
صورة
سيناريوهات مخيفة
بحسب الجيش الأميركي، فإن 90 في المئة من الهيروين في العالم مصنوع من الأفيون المزروع في أفغانستان، ففي يوليو 2000، عندما كانت طالبان متربعة على كرسي السلطة، فرض قادتها عقوبة الإعدام على زارعي وموزعي المخدرات، وأمروا بإتلاف محاصيل الخشخاش، لكن عقب الغزو الأميركي، فرضت طالبان سيطرتها على الأعمال التجارية، مدركة أنها أسهل طريقة للحصول على المال لشراء الأسلحة، ومن غير المرجح أن تتخلى طالبان عن هذا النشاط الذي يُدر عليها الكثير من الأموال، وأحد أهم مخاوف موسكو هو أن المزيد من الهيروين الأفغاني الصنع سيجد طريقه بسهولة إلى السوق الروسية.
ويخشى بعض المسؤولين الروس من احتمال إغراق بلادهم باللاجئين الأفغان، فليس سرا أن الولايات المتحدة تريد من الفارين من أفغانستان البقاء في دول آسيا الوسطى حتى يتم منحهم تأشيرة دخول.
وأعرب بوتين علانية عن معارضته مثل تلك الخطط، مدعيا أن طالبي اللجوء الأفغان قد يحاولون في النهاية دخول روسيا، كما شدد على أن الإرهابيين المتنكرين بزي لاجئين قد يحاولون التسلل إلى بلاده، وهذا هو أحد أسباب إصرار موسكو على حماية حدود دول آسيا الوسطى مع أفغانستان، وهي مهمة ليست بالسهلة كما يبدو للعيان.
ومن بين الجمهوريات السوفيتية السابقة نجد أن طاجيكستان، على سبيل المثال، ترتبط بحدود طويلة مع أفغانستان، وتصل إلى ما يزيد عن 1300 كيلومتر، ومن ثم سيكون من الصعب للغاية على 7000 جندي روسي متمركزين في طاجيكستان السيطرة على جبهة بذلك الطول.
والهاجس الرئيسي بالنسبة لروسيا، على المدى القصير على الأقل، يتمثل فيما إذا كانت طالبان ستقتصر على إنشاء «الخلافة الإسلامية» داخل حدود أفغانستان أو ما إذا كانت الحركة ستتعاون مع القوى الإسلامية المتشددة التي تسعى إلى تحقيق أهداف خارج حدود الإقليم.
ومن المتوقع أن تُنسق روسيا سياستها في أفغانستان مع لاعبين إقليميين آخرين مثل الصين وباكستان وإيران. وفي الواقع، ستلعب بكين، وليس موسكو، الدور الحاسم في أفغانستان في مرحلة ما بعد الولايات المتحدة، وستعزز الصين الاستثمار في مشاريع البنية التحتية في أفغانستان، ومن الممكن أن تزيد الهند من تواجدها الاقتصادي أيضاً، ويمكن لروسيا الاستفادة إذا تمكنت في النهاية من الانضمام إلى بناء خط أنابيب الغاز بين تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند، وقد ناقش المسؤولون الروس المشروع مع الحكام السابقين لأفغانستان، والآن يتعين الانتظار لاستبيان موقف طالبان تجاه المشاركة الروسية في ذلك المشروع، ومن وجهة نظر روسيا، يفي المشروع بالمبدأ الأساسي لسياسة روسيا تجاه صادرات الغاز التركماني، والذي يسمح لتركمانستان بتصدير غازها إلى أي مكان في العالم باستثناء أوروبا، حيث تهدف شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم إلى الحفاظ على هيمنتها هناك.
وعلى الصعيد السياسي، إذا وجدت روسيا وطالبان لغة مشتركة حول هذه المسألة، ونجحا في تعميق تعاونهما، حينها يمكن لروسيا رفع اسم الحركة من قائمة المنظمات الإرهابية، والتي ستكون بمثابة الخطوة الأولى نحو اعتراف روسيا رسميًا بطالبان.
العرب اللندنية