حكيم مرزوقي
الموسم الدرامي لهذا العام استثنائي ولا يشبه ما قبله على أكثر من صعيد، فهو محاصر بكورونا على مستوى التوقيت وظروف الإنتاج، وكذلك طبيعة المواضيع المطروقة، ولكن ثمة “جائحة” أخرى بدأت تهيمن وتوجد لها مكانا في المشهد الدرامي العربي وهي مسلسلات العنف والجريمة والمطاردات، ممّا يهدّد المواضيع المتعلقة بالمشاعر، والتي هي الأصل في الدراما الإنسانية. هذا رغم الارتياح العام الذي سجله حضور المرأة.
نظرة فاحصة وسريعة نحو المسلسلات العربية المقدّمة في موسم رمضان الحالي تظهر تراجعا واضحا للدراما الاجتماعية وذلك لصالح أعمال وصفها الكثير من النقاد بالهجينة والعصية على التصنيف، فإما أن تكون شبه بوليسية من تلك التي تعجّ بالعنف والمطاردات والتحقيقات المتمحورة حول جرائم المخدرات والسرقة والفساد والدعارة بنكهة أميركية منتهية الصلاحية، أو أن تكون مسلسلات تغازل الماضي، سواء كان قريبا أو بعيدا، علاوة على أعمال تقدّم نفسها ككوميديا فانتازية أحيانا أو “عائلية” أحيانا أخرى، فلا نكاد نعثر على ما يضحك فيها سوى الأداء المتواضع والفكرة الباهتة.
قد يكون من المبكّر الحكم على هذه الأطباق الدرامية التي خرجت لتوّها من مطابخ الإنتاج، ووسط ظروف استثنائية فرضتها جائحة كورونا وما انجرّ عنها من صعوبات إنتاجية وتسويقية، بالإضافة إلى المناخ النفسي العام الذي طال مثلث التمويل والصناعة والتلقي، لكن “المكتوب مبيّن من عنوانه” كما يقول المثل العامي.
نمطية وتكرار
“ممنوع التجول” دراما خليجية عن كورونا وأثره على العلاقات البشرية
طبعا، لا يمكن وضع جميع هذه الأعمال في سلّة واحدة، ذلك أن الاختلاف حاصل بين إنتاج بلد وآخر من حيث الكم والكيف والتوجه، فالدراما الخليجية مثلا، تسجل تقدّما وتفرّدا من حيث المواضيع المطروقة، كـ”ممنوع التجول” لناصر القصبي، الذي لم يتجاهل ما فعله فايروس كورونا بالعلاقات البشرية، كما شهدت حضورا نسائيا لافتا مثل “مارغريت” الذي تعود فيه النجمة حياة الفهد بدور مختلف، وكذلك “الروح والرية” و”الناجية الوحيدة” ذي الطاقم النسائي المتميز تأليفا وتمثيلا وإخراجا.
أمّا الدراما السورية فسجلت إطلالة محتشمة عمّا يحدث الآن وهنا، ثم عادت إلى داخل أسوار الحارة، يفتل أصحابها شواربهم في مسلسلات “الكندوش” و”العربجي” و”سوق الحرير 2” و”باب الحارة 11” وغيرها من الأعمال التي لا تريد اللعب فوق “صفيح ساخن” فكانت النتيجة “محلك راوح”، كما يقول المثل الشامي.
الدراما المصرية بدورها ليست بمنأى عن التكرار والنمطية، لكنها أوجدت طرقا متذاكية لتشبيب نفسها عبر تجميع نجوم الصف الأول والزجّ بهم في أعمال تبدو ضخمة من حيث الإنتاج، خصوصا تلك التي تستند إلى البطولات والملاحم الوطنية مثل “الاختيار 2” و”هجمة مرتدة” و”كوفيد – 25”.
ولم تترك هذه الدراما وسيلة تقاوم فيها الترهل، إلاّ واستثمرتها كالاستفادة من إرث حامل جائزة نوبل نجيب محفوظ، في رواية “بين السما والأرض”، كما أنها واكبت الموجة النسوية في العالم العربي والعالم، فأنثت العديد من الأعمال التي تطغى عليها النزعة البوليسية.
الدراما التونسية بدورها بدأت تظهر كلاعب منافس في المشهد العربي، وإن كان على أرضه وأمام جمهوره، إذ استفادت، في ظل غياب شركات الإنتاج والتوزيع، من تنوّع وانتعاش القنوات التلفزيونية المعتمدة أصلا على واردات الإعلان.
“الاختيار 2” عودة مصرية للدراما الملحمية
وأثبتت المسلسلات التونسية في السنوات الأخيرة جدارتها متسلحة بمساندة جمهور محلي وإقليمي (الجزائر وليبيا) بما تطرحه من مواضيع راهنة وبأساليب وتقنيات فرجوية مبتكرة، وقادمة من خبرات تونسية مميزة في السينما والمسرح.
“أولاد الغول” مسلسل من العيار الثقيل، تنتجه قناة “التاسعة” التونسية، ويخوض في عالم رجال الأعمال وانعكاس ذلك عبر الأبناء، أما “حرقة” فحافظ على البعد الإنساني فيه. استلهام التاريخ التونسي حضر عبر الكوميديا في “ابن خلدون” و”كان يا ما كانش” وكأن التونسيين بدأوا يحاورون التاريخ بعين “المعتز الساخر”.
وربما جاء هذا بفضل الحريات التي غنمتها تونس في السنوات العشر الأخيرة، وما عدا ذلك فأعمال موغلة في عوالم العنف والجريمة، أسوة بالمشهد الدرامي العربي عموما، مع بعض الفوارق البسيطة، أي أكثر حدة أو أقل حدة بقليل.
مشهد غريب
تقول المهتمة بالدراما التونسية نائلة الحامي “في إنتاج هذا العام، هناك مسلسلات تغوص في عوالم الجاسوسية والبوليس والجريمة والسجن، من خلال أعمال ‘الجاسوس’ و’الفوندو’ و’المليونير’ كأمثلة، وهي عوالم صارت تحضر بكثافة في الأعمال الفنية التونسية ما بعد ثورة 2011”.
ترى، ما الذي جعل الدراما الإنسانية التي تغوص في أعماق الذات البشرية وتهتم لصراع القيم والمشاعر، تنزاح لتترك مكانها إلى لغة العنف كما لو كنا في مجتمعات مافيا المال والجريمة المنظمة، في حين أن الأسرة العربية مازالت متماسكة ومحافظة على قيمها الأخلاقية والروحية؟
وصل الأمر ببعض شركات الإنتاج التلفزيوني في العالم العربي إلى استنساخ أعمال تقلد العصابات المنظمة في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، فتكثر على الشاشة مشاهد لرجال ببدلات سوداء وملامح قاسية يمسكون بالأسلحة ويطاردون بعضهم بعضا بسيارات فخمة ويسكنون قصورا خرافية الرخاء والرفاهية.
المرأة نجمة المشهد الخليجي والمسلسلات السورية تهرب من الحاضر إلى الماضي والدراما التونسية تراهن على التنوع
النساء العربيات صرن بدورهنّ أشبه بفتيات جيمس بوند: جمال بملامح شريرة، غواية لا حدود لها، ومنافسة للذكور في حب المال والسطوة، فلا رقة ولا مشاعر ولا حنان ولا من يحزنون.
صحيح، أن هذا المشهد بات يتسرّب إلى حياة بعض المجتمعات العربية، لكنه يبقى شاذا ولا يقاس عليه فمازالت الفتاة العربية تكتب رسائل الحب وتحلم بفارس الأحلام، ومازال الرجل العربي يتمثل ما تبقى من القيم النبيلة كالشهامة والرجولة وتقدير المرأة.. ولم يبلغ مثل هذه القسوة المرعبة كالقتل والسطو بدم بارد.
تسألك شركات الإنتاج العربية إن أنت تقدّمت لها بسيناريو مسلسل، أسئلة باتت مألوفة قبل أن تكلف نفسها عناء قراءة ما اقترحته: هل فيه أكشن، مطاردات، نساء جميلات أو شيء من هذا القبيل؟ إن كان من النوع الرومانسي فخذ أوراقك واقرأها على أصدقائك، فأنت مازلت تنتمي إلى ما يسمى بـ”الدقة القديمة”.
هكذا وبكل وقاحة، يعلن هؤلاء موت المشاعر والعلاقات الإنسانية لتحل محلها عوالم الجريمة والأجواء البوليسية ضمن أوساط اجتماعية محرومة من كل ما تشاهده من رفاهية على الشاشة وحالمة بالثروة، وتحسد ما يتمتع به السارق من ذكاء وسرعة بديهة، بجانب قُدرته على رفع مستوى الأدرينالين لدى الجمهور؛ الأمر الذي يزيد من التعاطف مع اللصوص، وتبرير انسياقهم وراء الجريمة.
الدراما السورية تسجل إطلالة محتشمة عما يحدث الآن وهنا، ليعود أبطالها يفتلون شواربهم داخل أسوار الحارة
هذه الدراما البوليسية ظهرت على شاشات هذا الموسم الرمضاني أكثر من أي وقت مضى، وبدأت تهدّد كتاب الدراما الإنسانية بقول صريح مفاده: إما أن تجاري الموجة أو فلتلزم بيتك. ويقول الروائي والسيناريست خالد الخليفة، الذي رفد الدراما التلفزيونية بأعمال مميزة مع المخرج هيثم حقي، وكذلك الراحل شوقي الماجري في “هدوء نسبي”، مبديا عميق استيائه ممّا آل إليه المشهد الدرامي العربي “خلال السنوات الماضية كانت الرسالة الموجهة إلى العاملين في الدراما، لقد انتهى عصر دراما المجتمع، المطلوب اليوم أكشن، مخدرات، دعارة، بوليس أميركي بطعم سوري – لبناني، ناس تخرج من القبور”. ويعقّب خليفة ممتعضا “طيب وصلتنا الرسالة، لكن يجب أن تخبرونا للمرة الأخيرة هل انتهت الحياة التي نحب الكتابة عنها للأبد، أم أنكم موضة ستزول.. وهذا أملنا الحقيقي أن تعود الدراما إلى بيوت الناس، إلى الحياة الحقيقية وآلامها”.
وينهي السيناريست السوري المعروف كلامه، بقوله “أحببت أن أضيف بأنني منذ خمس سنوات التلفزيون في منزلي معطوب وموضوع على الرف، ولست نادما”.
المصدر : العرب اللندنية