كريتر نت – العرب
لم تعد الثقافات ذات ملامح ثابتة بل صارت متغيرة ومنفتحة على التجديد. ومع حركات الهجرة والترابط التكنولوجي الحديث صارت المجتمعات أكثر انفتاحا وتنوعا، وبالتالي كان لزاما عليها تجاوز نظراتها النمطية إلى الآخر في الأعمال الفنية ومن بينها الباليه، الذي كان يقصي السود بل ويقدّم عنهم أفكارا وتصورات مغلوطة تحمل في طياتها عنصرية وإقصاء.
وأعلنت أوبرا باريس، الاثنين، أنها ستعدّل شروطها المتعلقة بضمّ الفنانين إلى صفوفها لتشجيع التحاق المزيد من الفنانين غير البيض بها، وأنها ستعيّن “مسؤولا عن التنوع” كما فعلت أخيرا أوبرا “متروبوليتان” في نيويورك.
وجاء ذلك بعد بدء نقاش حول النظرة الاستشراقية والكليشيهات في أعمال الباليه الكلاسيكي التي تعود إلى القرن التاسع عشر، وهي عملية دقيقة ما بين ضرورة الحفاظ على التراث الفني، وبين الأخذ في الاعتبار تطور العقليات وانفتاح الثقافات على بعضها البعض ضد العنصرية التي كانت تشوب الكثير من الإبداعات سابقا، وذلك دون السقوط في “ثقافة الإلغاء”.
وكشفت دار الأوبرا عن هذه الخطوات بمناسبة عرضها مضمون تقرير عن التنوع أعدّه المؤرخ باب ندياي والأمينة العامة لهيئة “المدافع عن الحقوق” المستقلة كونستانس ريفيير.
تكريس التنوع
ألكسندر نيف أكد التزامه بتحقيق حضور أكبر للفنانين من خلفيات متنوعة اعتبارا من موسم 2021 – 2022
قال المدير العام لدار الأوبرا ألكسندر نيف “نحن فخورون جدا بأن نكون أول منظمة ثقافية كبرى في فرنسا تطلق مثل هذه العملية، ومن المؤكد أن الآخرين سيحذون حذونا”.
ومنذ تسلّمه منصبه في سبتمبر الماضي على رأس المؤسسة ذات الأعوام الثلاثمئة، أولى نيف اهتماما بالغا بمسألة التنوع، بموازاة بيان غير مسبوق عن التنوع العرقي في دار الأوبرا.
وأكد نيف، ردا على من اتهمه باستلهام تجربة الولايات المتحدة في هذا الإطار بأن “الأمر لا يتعلق إطلاقا باستيراد مفاهيم التنوع من سياق غير السياق الفرنسي”.
وتضمّن التقرير سلسلة من التوصيات أبرزها ضرورة مراجعة شروط الدخول إلى مدرسة الرقص المرموقة، التي تشكّل خزّانا يرفد باليه الأوبرا، بحيث تتيح التعديلات “رصد المواهب” في كل أنحاء فرنسا، أو حتى إشراك أشخاص من خارج الدار في هيئة التحكيم التي تتخذ القرارات في شأن ضمّ الموسيقيين إلى المؤسسة.
وأوصى التقرير، الذي طلبت الدار إعداده قبل خمسة أشهر، بأن تبادر مدرسة الرقص نفسها إلى البحث عن المواهب، بدلا من أن تستمر، كما هي الحال راهنا، في انتظار تقدّم المرشحين إليها. ودعا النص في هذا الإطار إلى إقامة تجارب لامركزية تشمل الأقاليم الفرنسية ما وراء البحار.
وشدد التقرير أيضا على أن “الهدف ليس ضمّ تلاميذ أدنى مستوى من أجل تحقيق أهداف التنوع، بل البحث عن طلاب جيدين جدا أينما كانوا”.
وأبرز باب ندياي أهمية توفير “نموذج” للأولاد المهتمين بالرقص أو الموسيقى أو الغناء على تنوع انتماءاتهم. واستشهد في هذا الصدد بحالة ميستي كوبلاند، أول أميركية من أصل أفريقي حصلت على صفة “راقصة رئيسية” في دار “أميريكان باليه ثياتر” عام 2015، مشيرا إلى أنها تحولت مصدر إلهام للأولاد الأميركيين من أصل أفريقي.
حضّ التقرير على إعادة النظر في “المعايير البدنية لاختيار” تلاميذ مدرسة الرقص في المستقبل وتجاوز “الفكرة القديمة الراسخة” القائلة بأن الخصائص البدنية للسود “لا تناسب الرقص الكلاسيكي” بحجة أن “أقدامهم مسطحة عموما” و”عضلاتهم أكثر بروزا”، في حين يتطلب الباليه أقداما مقوسة وعضلات ممدودة.
ورأت التوصيات ضرورة التخلي عن “فكرة أن التجانس هو أمر مطلق”. وأشار ندياي إلى أن راقصين سئلوا في مدرسة الرقص “بما أنك لست أبيض البشرة، كيف ستتمكن من تأدية رقصة ‘بحيرة البجع’؟”.
التجذّر في المجتمع
التعديلات تتيح “رصد المواهب” في كل أنحاء فرنسا
أكد نيف التزامه بتحقيق “حضور أكبر للفنانين من خلفيات متنوعة اعتبارا من موسم 2021 – 2022″، من خلال “توسيع عمليات استقطاب الفنانين واختيارهم”.
كما أعلن أن دار الأوبرا ستعين “مسؤولا عن التنوع والإدماج”، وستستحدث في الأشهر المقبلة “لجنة استشارية علمية مكونة من فنانين من الدار وشخصيات من خارجها، تُعرَض عليها قضايا التنوع، بالإضافة إلى نظام للإبلاغ عن حالات العنصرية أو التمييز”.
وأشار نيف إلى أن الدار ستعمل على “تحديد” الصور النمطية الواردة في سجل أعمالها التاريخية، سواء أكانت غنائية أم في مجال الباليه، على أن يُعمَل على “توضيح سياقها” التاريخي للجمهور، لكنه أكّد أن “هذا لا إعادة صوغ الكتيّبات” المتعلقة بها.
وكان نيف أثار في نهاية ديسمبر غضب اليمين المتطرف بلسان رئيسة حزب “الجبهة الوطنية” مارين لوبان بعد تصريح له في صحيفة “لوموند” نُقل فيه عنه قوله إن “بعض الأعمال سيختفي بلا شك من السجلّ”، وجاء كلامه مباشرة بعد فقرة تشير إلى أعمال شهيرة مثل “بحيرة البجع” و”كسّارة البندق”.
وجاء تصريحه بعد بضعة أشهر من بيان غير مسبوق عن التنوع العرقي في دار الأوبرا، أصدره راقصون وموظفون سود ومختلطو الأعراق في المؤسسة، ليُسلط الضوء على مسألة أعمال الباليه التاريخية التي يرى هؤلاء الراقصون أنها تكرس العنصرية ولا تحتفي بالتعدد الثقافي الذي هو سمة عالم اليوم.
مدرسة الرقص العريقة ستقوم بالبحث عن المواهب بدلا من أن تستمر في انتظار تقدّم المرشحين إليها
وسارعت الأوبرا يومها إلى النفي، مشيرة إلى أن “تلاصقا مؤسفا” حصل بين كلام المدير العام والفقرة المذكورة. وكرّر نيف أن الأمر لا يتعلق إطلاقا بفرض “رقابة” على الأعمال.
وذكّر بالخطوات التي حققتها أصلا دار الأوبرا، ومنها تخليها عما يُعرف بـ”البلاكفيس”، أي تلوين وجوه ممثلين أو راقصين بيض باللون الأسود لأداء دور شخصيات من ذوي البشرة الداكنة، إضافة إلى خيارها المتمثل في الكفّ عن تبييض بشرة الراقصين في بعض أعمال الباليه، وتصفيف الشعر المجعد وإعطاء الراقصين والراقصات السود على جوارب طويلة وأحذية باليه تناسب لون بشرتهم. وقال “أنا مقتنع بأن هذه العملية ستجعلنا منظمة أكثر تجذّرا في مجتمع اليوم”.