عماد عبد الحافظ
كاتب مصري
تنظر الحركة الإسلامية المعاصرة بمختلف مكوناتها إلى المجتمعات الإسلامية اليوم على أنّها ابتعدت عن الإسلام، وأنّ واجبها يتمثل في العمل على إعادتها إليه مرة أخرى، وترى أنّ الإسلام رسالة عالمية خاتمة، وأنّه من ثمّ صالح لكل زمان ومكان، ولذلك فهي تسخر كل إمكاناتها وجهودها من أجل استمرار حضور الدين كإطار مرجعي حاكم لجوانب الحياة جميعاً.
ويمثل التيار السلفي أحد المكونات الرئيسية والمهمة داخل الحركة الإسلامية، وقد استطاع أن يحقق انتشاراً واسعاً وتأثيراً كبيراً في المجتمع خلال العقود الأخيرة، ويرى أنّه هو من يحافظ على الدين ويقوم على حمايته.
وفي هذا الإطار نحاول طرح عدد من الأسئلة؛ أوّلها ما السمات أو الشروط المفترض توافرها في الإسلام حتى يكون صالحاً لكل زمان ومكان؟ وهل هذه السمات تتوافق مع طبيعة الفكر السلفي؟ وهل يمثل الفكر السلفي تياراً بعينه أم أنّه منهج تتميز به كل مكونات الحركة الإسلامية المعاصرة؟ وهل التجديد الديني ضرورة؟ وأخيراً هل المنهج السلفي حقق نفعاً للدين، أم أنّ أصحابه يسيرون في اتجاه معاكس؟
هل السلفية مذهب فقهي أم نمط من التفكير؟
في إطار تصنيف التنظيمات والتيارات الإسلامية الموجودة تتم التفرقة عادة بين تيار سلفي يهتم بالدعوة والتربية مثل السلفية الدعوية والسلفية المدخلية، وتيار جهادي يتخذ من استخدام القوة أداة للتغيير، وتيار آخر سياسي يمارس العمل السياسي بجانب وسائل أخرى دعوية مثل الإخوان المسلمين، لكن هل هذا التصنيف صحيح أو كافٍ؟ وهل مصطلح السلفية ينطبق فقط على تلك التيارات المعروفة في المجتمع بهذا الاسم؟ وهل السلفية مرتبطة باتباع مذهب فقهي معين، أم هي بالأساس منهج ونمط من التفكير؟
“السلف” في اللغة، وكما استخدمها القرآن الكريم، تدل على التقدم والمضي والسبق الزمني، وهي تشير إلى ما سبق من أحداث وأشخاص وأزمنة، وحول مفهوم السلف عند العلماء يوضح الدكتور مفرح بن سليمان القوسي الأستاذ بكلية الشريعة جامعة الملك محمد بن سعود بالرياض في كتابه “المنهج السلفي” أنّ العلماء قديماً وحديثاً حددوا مفهوم “السلف” بقرون الإسلام الـ (3) الأولى، ووضحوا أنّ المقصود بالسلف هم أصحاب هذه القرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كما أوضح أنّه يدخل ضمن دائرة “السلف” كل من تمسك بالكتاب والسنّة وسار على نهج الصحابة والتابعين في فهمهما والعمل بهما، حتى وإن عاش في القرون المتأخرة، وأنّ السلفيين هم الملتزمون بما التزم به السلف الصالح من أهل القرون الـ (3) الأولى سواء كانوا فقهاء أو محدثين أو مفسرين وغيرهم، ويؤكد على أنّ العبرة في تحديد “السلفي” ليست بالفترة الزمنية، أي بمن عاش في تلك القرون الأولى، ولكنّ السلفية منهج وخط متصل من الأتباع لهذا المنهج، ويقول إنّ لفظ “السلف” علم على الصحابة وتابعيهم وأتباعهم ممّن ساروا على نهجهم وتلقوا كلامهم خلفاً عن سلف كالأئمة الـ (4) وسفيان الثوري… إلخ، ويستثني من ذلك كل الفرق والتيارات الإسلامية كالمعتزلة وغيرهم، وبذلك فهو يؤكد على أنّ السلفية منهج وليست مذهباً فقهياً معيناً، “إنّ العبرة في ذلك بالطريقة التي ساروا عليها والمنهج الذي سلكوه”.
في الواقع إنّ المنهج السلفي يمثل الثقافة الدينية السائدة في المجتمع، وإنّ هذا الفكر لم ينقطع وجوده في المجتمع الإسلامي منذ قرون الإسلام الأولى، منذ أن تحددت معالمه مع الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري، وإنّه لم يظهر فقط مع الصحوة الإسلامية في القرن الماضي، فالسلفية في جوهرها تعني التقليد والاتباع وسيطرة الماضي على الحاضر، وفهم التجديد الديني على أنّه العودة بالشيء إلى أصله، وإزالة ما علق بالدين من شوائب، فالتجديد من المنظور السلفي ليس تطويراً ولكن عودة إلى الماضي، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تأكيد جوهر السلفية الذي هو سلطة الماضي على الحاضر، وهذا الاتجاه قد ترسخ في المجتمعات الإسلامية بعد أن فقدت التيارات العقلانية، كالمعتزلة والفلاسفة المسلمين، تأثيرها بفعل عدة عوامل، وسيطر المنهج السلفي على المجتمع بدرجة كبيرة، ثم امتد طوال التاريخ الإسلامي من خلال عدد من الرموز والحركات.
وبناء على هذا المفهوم للسلفية؛ فإننا نرى أنّ جميع الحركات الإسلامية والتيارات التي ظهرت خلال القرنين الماضي والحالي هي حركات سلفية، بمعنى أنّها ليست حركات مجددة، فهي جميعها تنطلق من رؤية أنّ نموذج المجتمع الإسلامي في صورته الأولى هو النموذج المثالي الذي يجب استعادته اليوم، لأنّه يمثل الإسلام في صورته النقية الصافية قبل اختلاط المجتمع بالأفكار والثقافات الأخرى بعد توسعه بسبب الفتوحات ودخول أفراد ومجتمعات تنتمي لأمم وحضارات مختلفة، فهم يرون أنّ تلك الأفكار والتغيرات والتطورات التي لحقت بالمجتمع بمثابة أمور عارضة تمثل شوائب تسببت في تعكير ذلك النموذج، وبالتالي تهدف جميع تلك الحركات إلى استعادة ذلك النموذج مرة أخرى، ولذلك فإنّ فهمهم عن “التجديد” على أنّه إعادة الشيء إلى أصله، وإزالة ما علق بالإسلام من شوائب في صورة بدع ومستحدثات، جعلهم يعتبرون شخصية مثل محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية على أنّه مجدد الإسلام، على الرغم من أنّه صاحب حركة الإحياء الثالث للسلفية في العصر الحديث، والذي كانت دعوته قائمة على العودة إلى نموذج الإسلام في القرون الأولى، كما يوصف حسن البنا بأنّه مجدد الإسلام في القرن العشرين من قبل جماعة الإخوان وبعض الرموز الفكرية القريبة منها، على الرغم من أنّ مشروعه وأفكاره كلها تدور في إطار الفقه القديم بمذاهبه المعتبرة، فتصوره عن الدولة ووظيفتها ومسألة الإمامة ومفهوم الجهاد وصوره وأهدافه ووسائله ومسألة الخلافة وغيرها من أفكار ومفاهيم كلها تدور داخل هذا الإطار، ولم يأتِ بجديد في ذلك.
مفهوم التجديد وضرورته
ربما يتفق التيار السلفي مع أصحاب الاتجاهات الفكرية الأخرى على أهمية تجديد الدين، لكنّهم بالطبع مختلفون بشكل كبير حول مفهوم التجديد وأهدافه، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية التي ينتج عنها مشكلات كثيرة في واقعنا العملي.
مفهوم التجديد ليس غريباً على العقل الإسلامي عموماً والسلفي خصوصاً، فهناك نص ديني يتمثل في حديث نبوي يتحدث صراحة عن تجديد الدين يقول: “إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها”، ومن هنا اهتم علماء المسلمين قديماً بمسألة التجديد وألفوا لها الكتب، وعددوا فيها المجددين في كل قرن من القرون، وتناولوا الكثير من التفاصيل الخاصة بشروط المجدد ومجالات التجديد وتعدد المجددين والتوقيت الذي يظهرون فيه ودورهم ومكانتهم، وقد تناول هذا الأمر الشيخ أمين الخولي في كتابه “المجددون في الإسلام”، الذي يوضح فيه أنّه من خلال التعرف على وصف القدماء لعمل المجدد فإنّه من الممكن ملاحظة صورتين للتجديد؛ الأولى صورة تقليدية تُفهم بشكل واضح من كلام العلماء، وهي الراسخة لدى التيارات السلفية، وصورة أخرى تُفهم بشكل غير مباشر وهي تتضمن معنى التطور، والفارق بينهما كبير، فالأولى تصيب الدين بالجمود وتجعله عاجزاً عن مواكبة حركة الاجتماع البشري، والثانية تمنح الإسلام الحيوية والحضور الدائم المتجدد، وتجعله قادراً على الاستمرار بفعالية وإيجابية وبصورة غير معوقة أو متعارضة مع التطور الإنساني، وتساعده على أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان.
بخصوص الصورة الأولى يرى الخولي أنّ العديد من العلماء قديماً تحدثوا في كتبهم عن التجديد، وعدّدوا المجددين في كل قرن، ذلك أنّهم يرون أنّ التجديد سنّة ثابتة من خلال الحديث النبوي المشار إليه سلفاً، وأنّ منهم من كان يعدّ المجدد في مرتبة النبوة، وكانوا يرون بضرورة التجديد، لأنّ هناك محناً وآفات اجتماعية كبرى تحدث في المجتمع في كل قرن تقتضي التجديد، مثل فترة حكم الحجاج بن يوسف، وفتنة خلق القرآن، وخروج القرامطة، والحروب الصليبية، ويرى الخولي أنّ التجديد عند القدماء كان هدفه حماية المجتمع والانتباه إلى العوامل السيئة المفسدة له والعمل على مواجهتها، ولذلك كان مفهومهم عن التجديد هو “إحياء السنّة، وإماتة البدعة، وإحياء ما اندرس”، وهو ما يعني، وفق الخولي، أنّ شيئاً من المعالم الدينية الاعتقادية أو العبادية فرضاً أو سنّةً قد أُهمل ونُسي على مرّ الزمن، فيعمل المجدد على إعادة العناية به، والتزامه بالصورة الأولى التي كان عليها، وأنّ دور المجدد في أحيان أخرى هو تعليم الناس دينهم، والدفاع عن السنّة، ممّا يعني أنّ التجديد يتمثل في “حماية الدين وكيانه بالصورة التي أدى بها، دون تدخل بفهم جديد أو تطبيق جديد، يمكن أن يعد مسايرة لتغير الحياة”، لكنّ الخولي يرى أنّ مفهوم التجديد على هذا النحو لا يساعد الدين على مسايرة التقدم البشري، وأنّ التجديد يجب ألّا يقتصر على إعادة قديم كان، وإنّما اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن.
ولذلك فإنّ الخولي فرّق بين مفهوم التجديد من خلال معناه السائد الذي تحدثنا عنه، وبين مفهوم آخر للتجديد يتضمن معنى التطور الذي يعني كما يوضح في كتابه “تغير الحياة أثناء سيرها إلى مستقبلها، فإذا كان المجدد مطوراً للحياة فمعنى ذك أنّه يقدر تغيرها في سيرها إلى غدها، ويعمل على جعل الدين مسايراً لها في هذا السير، موائماً لحاجتها فيه، فالتطور لا يفهم بسهولة من إحياء ما اندرس كما يقال في معنى التجديد”، ويرى الخولي أنّ الإسلام به من الأسس والمقومات التي تساعده على التطور، وأنّ هذا أمر ضروري لدعوة تريد لنفسها أن تعمّر ذلك العمر الأبدي، في كل الأمكنة، وعلى طول الأزمنة، فكأنّه يجيب عن السؤال الذي طرحناه في البداية حول الشروط أو السمات التي يجب توافرها في الإسلام حتى يكون صالحاً لكل زمان ومكان كما يرى التيار السلفي ذاته، هل يكون فقط بالحفاظ على الفهم الموروث للدين عبر الزمن؟ إنّ الجواب يتمثل في التطور، ومدى قدرة الدين على التطور.
وهذا المعنى للتجديد الذي يرى الخولي أنّه هو المطلوب لمنح الحيوية للدين ومساعدته على الحضور والاستمرار ومسايرة التقدم الإنساني، يمثل الصورة الثانية للتجديد الذي لاحظه من خلال كتابات العلماء قديماً بشكل غير مباشر، من خلال حديثهم عن المجددين الذين ابتكروا أموراً جديدة ساهمت في منح الحيوية للدين، سواء فيما يخص أمور العقيدة أو الأحكام الشرعية العملية، مثل اتخاذ وسائل جديدة في عرض العقيدة وتصويرها باستخدام المنطق اليوناني طريقاً للاستدلال، ومثل وضع قواعد جديدة قائمة على وسائل عقلية ومنطقية لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وهو ما يتمثل في علم أصول الفقه، وكذلك في تجربة الشافعي في تغيير الكثير من أحكامه الفقهية بتغير البيئة التي عاش فيها ما بين العراق ومصر.
هل أضرت السلفية بالدين؟
أردنا من التعرض لمفهوم السلفية ومفهوم التجديد وضرورته المقابلة بين طبيعة المنهج السلفي ونمط التفكير الذي يميز التيارات الممثلة له من جهة، وبين مقتضيات استمرار الإسلام بشكل حيوي وفعال وإيجابي، وبصورة غير معوقة لحركة التقدم الإنساني، وغير متعارضة مع طبيعة الاجتماع البشري التي يحكمها مبدأ التطور والتغير المستمر من جهة أخرى، فالإسلام بما أنّه دين يخاطب البشرية جميعاً متجاوزاً حدود المكان وما يستتبعه ذلك من اختلاف في البيئة واللغة والثقافة، ومتجاوزاً حدود الزمان وما يستتبعه ذلك من تطور المجتمعات وتطور الوعي الإنساني كذلك؛ فلا بدّ إذاً أن يتمتع بدينامية وقدرة على التطور تمكنه من الاستمرار ودوام الحضور وأداء الدور المنوط به، وفقدانه لهذه السمة وهذه القدرة تفقده الآلية التي تحقق وجوده وتساعده على الاستمرار، فالتجديد الديني الذي يتضمن معنى التطور يصبح من مقتضيات الإسلام.
من هنا يتضح التناقض القائم بين طبيعة المنهج السلفي وبين مقتضيات وشروط استمرار الإسلام وصلاحيته الدائمة على مستوى الزمان والمكان، وهو الأمر الذي يعكس سير التيار السلفي عكس الاتجاه، ففي حين يسعى إلى إقامة الدين واستمرار حضوره وأن يكون إطاراً مرجعياً حاكماً للمجتمع، فإنّه على العكس يتسبب في تعطيل دينامية الإسلام وفقدانه القدرة على التطور ومواكبة حركة الاجتماع، وفي حين يريد المحافظة على الدين فإنّه يتسبب في إصابته بالجمود، وجعله بدلاً من أن يكون رافعة للمجتمع نحو التقدم يصبح مصدراً للعديد من الأزمات السياسية والاجتماعية في المجتمع، ويتسبب هذا الجمود في تعصب البعض للدين، وتجاوز البعض الآخر له، واستمرار حركة النقد للكثير من مسلمات الفكر الديني؛ وكل هذا يخلق بيئة مليئة بالصراعات والأزمات.
نقلا عن حفريات