كتب .. وليد صالح عياش
الأمين العام للمجلس الوطني للأقليات في اليمن
حين يتم الحديث عن إعادة ترتيب منظومة القيم، بحيث يكون الإنسان في المرتبة الأولى، والوطن في الثانية، والدين في الثالثة، فهذا ليس تقليلًا من شأن الدين، بل هو محاولة لوضعه في موضعه الطبيعي الذي يحفظ جوهره ويمنع تحوّله إلى أداة للهيمنة.
في هذا الترتيب، يصبح التدين شأنًا شخصيًا لا يُفرض على المجتمع، بل يُمارسه الفرد بحرية واختيار، في حين يُبنى النظام المجتمعي على قيم إنسانية مشتركة، تُراعي تعددية البشر واختلاف معتقداتهم وتنوّع مرجعياتهم.
ذلك أن المجتمعات، بطبيعتها، تجمع بين المؤمن والكافر، وبين المتدين واللاديني، وليس صحيحًا أن هناك مجتمعًا على معتقد أو دين أو فكر واحد، لأن هذا المفهوم يُكذّب صريح القرآن الكريم، الذي قال:
“هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”
[سورة التغابن، الآية 2]
ولا يمكن اختزال المجتمع في رؤية واحدة أو دين واحد دون الوقوع في الاستبداد الأخلاقي والنفاق الاجتماعي. فحين تُفرض القيم الدينية لدين معيّن على مجتمع متعدّد، فإننا لا نبني مجتمعًا فاضلًا، بل نصنع مجتمعًا منافقًا، يخفي أفراده ما يعتقدون، ويُظهرون ما يُطلب منهم، اتّقاءً للبطش أو مسايرةً للسلطة.
وهذا بالضبط ما يحدث حين تُبتلى المجتمعات بمتألّهين أرضيين، يزعمون تمثيل الإرادة الإلهية، ويمارسون باسمها قمعًا دينيًا وسياسيًا، يفرض أنماطًا محددة من الإيمان والسلوك. هؤلاء لا يصنعون طهرًا دينيًا، بل ينتجون أزمة مزدوجة: نفاقًا اجتماعيًا، وتشظيًا سياسيًا، تنهار فيه معايير الصدق وتُفقد فيه الثقة بين الناس والدولة والدين على السواء.
إن تحرير الدين من سلطة الدولة، وتحرير الدولة من وصاية المتدينين السياسيين، وتحرير الإنسان من الإكراه الديني، هو الطريق إلى بناء مجتمع عادل يتّسع للجميع، ويجمع بين كرامة الإنسان، وسيادة القانون، وقدسية الإيمان الحر.
من هنا، نحن بحاجة إلى رؤية جديدة، لا تفصل الدين عن الحياة، لكنها تفصل بين الإيمان والإكراه، وبين القداسة والاستغلال، وبين ما لله وما للناس. رؤية تُبقي الدين نورًا يهدي لا سوطًا يُجلد به المختلفون، وتُبقي الدولة خادمةً للإنسان لا وصيّة على روحه.
في هذا الأفق، يمكن أن نتصالح مع ذواتنا، ومع أوطاننا، ومع بعضنا البعض، فنقيم مجتمعًا مدنيًا رحيمًا، تتعايش فيه الأديان والمعتقدات، لا تُقصي أحدًا، ولا تُقدّس أحدًا، بل تُنصت لصوت الإنسان، بوصفه أقدس ما في الوجود.