كتب : د/ امين العلياني
بعد أن قررت جامعتنا الموقرة الأمتثال لقرار الحكومة بشأن تعليق الدراسة في جميع الكليات والمراكز العلمية وتزمينها إلى بعد عيد الفطر المبارك، لدوافع وقائية واحترازية من هذا الوباء الفيروسي المستجد كوفيد19 بوصفه كوبوسا مرضيا وحربا نفسية تضاف إلى ما مثلته الحرب الأهلية من كابوس على نفوس الشعب المغلوب على أمره في الوقت الذي لا يرى أية ملمح يسعى نحو السلام وإنهاء الاقتتال.
في إحدى ليالي المكوث في البيت في منطقة أبي مدين صبر، مديرية تبن محافظة لحج، ضمن أيام الحجر الاحترازي والوقاية من هذا الوباء الفيروسي المستجد كوفيد19، فكرت الأسرة والاولاد أن يطرحوا فكرة السفر إلى القرية بصيغة ديمقراطية لم يشهد لها مثيلا، صوتت الزوجة والأبناء بصورة صريحة بضرورة السفر بينما البنات لول وجنى تحفظن عن التصويت، لأنهن كانين على موعد مع توديع مديرة المدرسة في أبي مدين قبل السفر، أما أنا فكان موقفي أن الحجر بالبيت مطلب أساسي وأن السفر إلى القرية غير مناسب في ظروف لم تترك الحرب الأهلية في البلاد اي شيء جميل في المدينة فما بال الحال بأوضاع تعيشها القرية التي كانت آخر مكالمة لي مع اختي ( فاطمة) قبل أيام سألتها عن صحة الوالد واخواتي وأخبرتني أنهم في خير وسألتها عن حال الخدمات واوضاعهم المعيشية، فقالت: أما الكهرباء فتكاد تكون معدومة غير ساعتين تشغلها ادارة الكهرباء وكأنها لمفاقدة الخطوط وليس بهدف توفير الخدمة التي نستفيد منها في تشغيل مضخات الماء لتصل إلينا من المشروع في وادي غرابة الى القرية وفهمت من كلامها أن الماء في شح والأرض على موعد مع المطر.
كنت غير معترض لصوت الأغلبية بعد أن انضمت البنات إلى صوت السفر الذي أصبح ضرورة ملحة للأغلبية رغم أن هذا القرار كان بالنسبة لي قرارا يشبه ثنائية كورونا الحرب والمرض، لأن قرار الدولة بالحجر في البيت وفر لي مساحة كبيرة مع القراءة في مكتبتي التي كنت وما زلت منهمكا بها وتصفح عبر النت السياسة وجديد الأدب والنقد، ويعد قرارًا كهذا بالموافقة عليه بمثابة سجن مكتمل الأركان، لأن القرية كما عانيت معها في إجازة عيد الأضحى المبارك الماضي غياب الشبكات وأنظمة التوصيل بفعل الحرب الذي دمرت كل وسيلة وانهت كل أمل .
سافرت الأسرة مع اخيها إلى القرية وكان القرار مني بالموافقة من أعماق قلبي؛ لأنه يمثل صوت الأغلبية وقلت لا بأس، انا ابقى انا هنا لحراسة المنزل وتفقد أحواله، فالحياة أكبر من مجرد همزة وصل بسرعة السفر إليهم في أية لحظة لقرب المسافة مع وسائل المواصلات بين المحافظة والقرية.
قررت يا أصدقاء البقاء في البيت لوحدي بشأن حراسة البيت وتفقده ، لكن أن الغريب في هذه الفترة التي مكثت فيها في ظل غياب الأسرة ، وجدت أن الفئران خاوون عاطفيًا، مفرغون من كل معنى، تلبسهم الهشاشة، وتغيب البشاشة عن قلوبها، قلقون بشأن أوضاع غياب كورونا البيت عنهم، رأيتهم مرتبكين مع أوضاع المنزل غير مرتب والمطبخ متسخ بسبب يدي انا التي لا تعرف أن تغسل صحن فكيف تطبخ والذكورية سمة معلقة في اذهانها بفعل هيمنة هذا الوعي القمعي وكانت لحظة غير متوقعة لتلك الاسراب من الفئران وبأشكال متنوعة حتى وقفت مستغربا ما علاقة كورونا الفئران في الصين وكورونا الخروج في المنزل وفي أوقات متأخرة من الليل والكهرباء طافية في مشهد مثير جدا.
ظلت الأسرة يوميا تتواصل بي وتسأل عن أوضاعي وكيف مأكلك ومشربك معتبرة هذا كجزء من قيامها بواجبها الوطني تجاه زوج بالنسبة لها مصير مقدس ومن صفاته أنه ينشر وعي الديمقراطية في أوساط البيت وصنع القرار ، وحقا أنضمت لجبهة الدعم المعنوي في ردي على رسالة منها رغم صرامتها اللغوية في الكتابة وعمق التعبير بمعانيها، قائلة: (طمني عليك يا مسراج البيت وعرش يتسع لمن يستحقه ويفهم كنزه ونقاوة سريرته).
ضغطت على أناملي لأرد بهدوء معلقا على رسالتها ، وألفاظها بالقول: ( لقد أمسيت ليلة كورونية مع الفئران وأيقنت أن غيابك عن البيت كان بمثابة انتصارا كبيرا لكورونا الفئران التي انتشرت بشكل مخيف) واضفت قائلا: ( لقد كان وجودك لا يشجع اي كورونا في التسلط والاحتواء في زمن انتشر فيه كورونات كثيرة) .
لا بأس أن تكتب لي رسائل من هذا النوع رغم معرفتي بمستواها المتوسط من التعليم، وعرفت أن ابن أخي ربما هو بالكاد ابن اختها المتخرج من كلية العلوم الإدارية وإمام مسجد القرية هو الذي يكتب رسائل بهذا المستوى؛ لا شيء يزعجني واللغة تكتب بصيغها الصحيحة.
وصلتني رسالة أخرى صبيحة يوم الجمعة 3 ابريل2020م من كورونا البيت (زوجتي) التي سافرت إلى القرية، تقول فيها: (لقد زرت أباك يوم أمس وقال لي لماذا لم يروح هو لزيارتي، لقد وصل به العلم – يقصد أنا – لهذه الدرجة من طاعة أبيه) وما زلت أقرأها وكأنّ صاعقة كورونية أخرى تصعقني، وعرفت أن اللغة لها دور في إنتاج معانيها وصدق تقبلها وظليت على يقين من أن والدي لم يقل هذا مطلقا لمعرفتي بحبه وصدق علاقتي به، وبعد أغلقت الجوال، وبسرعة غير مكترثة، جهزت كل ملابسي متوجها إلى القرية، غير أن تفكيري ما زال مهيمنا عليه هذا السؤال، كيف يكون أباً يحس بي من أنه ليس في بالي ولا يحظى باهتمامي؟!. يا للهول!! يا للعقوبة.
راجعتُ قوائم محطاتي مع الوالد وكأنها شريط وثائقي فوجدتها كلها في طاعته وبره وكان أخر زيارة لي بها قبل شهر تقريبا واكتشفتُ أنني أعيش في وهمٍ كبير ، أتشنج وأحرق أعصابي من هكذا سؤال وأنا على يقين من أن الأمر فيه حيلة، من أن زوجتي تريد كيف تقنعني بالسفر إليهم وان كان على حساب معاناتي التي ما زلت أتذكرها طوال الطريق حتى وصلت إلى القرية .
أصدقكم القول.. لم يغضبني تلك الحيلة التي وظفتها زوجتي في رسالتها من أن والدي زعلان مني بعدم زيارتي له، لأنها نابعة من حب أو أن السبب في أنها فهمت دلالة كورونا الفئرانية وبدأت تتسرب إلى أذهانها دلالات عميقة تنضح بمدلول مقترن بالغيرة، أنها كورونا الساعية إلى اسقاط عرشها المقدس.
أتفهم خلفيات هذه الشريحة من النساء بكل تفاصيلها، ونيتها. أدرك القمع السلطوي الذي تعاني منه المرأة، ولولا فكر المجتمع الذكوري وما حفظ له الاسلام من مبدأ التعدد، بهدف حفظ المصالح وردع المفاسد، لتزعمتُ جمعيةً تناصر المرأة بكل ما تطلب في أحقية وجودها وكينونيتها، هذه المناصرة لكي تفهم كل مرآة اننا مع حفظ حقوقها ومع ما تملأ دواخلها بالطريقة التي تريدها ولا تنتقص من وجودها ولا تمس كرامتها وتهين من مكانتها. فالكل صار يعرف عني غيرتي على المرأة وغضبي على انتهاك محارمها دون مسوغ شرعي، فالمرأة أمَّ وزوجة وأخت وبنت، ومن ارتضى لمهانة امرأة فهل يرضاه لأمه أو زوجته أو أخته أو بنته، حين تُنتهك محارم الله.
وبعد أن وصلت القرية رأيت الأرض جدباء، والمطر لم يعد عن زيارته لها منذ وقت الصيف والكهرباء طافية والماء في شح، وزرت الوالد والأخوات وبعد ذلك بيوم زرت (الحاج علي) إلى بيته، الحاج علي مشهود له في القرية بالتقوى وعمل الخير وإصلاح ذات البين ومساعدة الفقراء والمساكين.. وسألته بسؤال ملحٍ: يا شيخ كيف الحال بالقرية، أجابني : والله يا ابني الحرب طحنت كل أمل وانهت كل حلم ودمرت كل وسيلة وخدمة ، فحالة الناس من البؤس والعوز ما يدمي له القلب. وتنهد قليلا وقال : يا ابني المساكين سيفرحون، حين تقدم لهم الهبات والزكاة في شهر الصوم وتحس فرحتهم لكن مع هذه الحرب اللعينة وظهور هذه الكورونا أغلقت كل أبواب الخير بسبب أن منافذ الحدود مع دول الخليج توصدت في أوجه الناس.
واعجبني حديثه وعن همته في تقديم الخير وما زلت منهمكا معه فيما يقول ، قائلا : يا ابني تصدق كنا نعمل في دعم المساجد وصيانتها وفرشها وترميمها في كل القرى وهذه القرية مع قرب كل صيام لكن مع أن الحرب طولت وكثرة الأموات وصار في كل بيت شهيد وشهيدين وكثرة موت الفجأة ..صار حتما علينا أن نعمر المقبرة حق القرية ونعمل على حمايتها من السيول والأضرار..هكذا كنا نعمل للأحياء واليوم تحتم علينا أن نعمل للأموات ..يا لها من كلمات نزلت على قلبي وعقلي وكأنها صواعق رعدية تفجر الأرض لقوة صوتها.
قلت له: يا شيخ علي هذه الكورونا أصبح العالم اليوم في خوف وهلع واظهرت هشاشة كثير من الدول الكبرى بكل المستويات العلمية والصحية والبيئية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فقال: يا ابني الإنسان ضعيف وبالعلم يستطيع أن يرى الأفق البعيد لكن متى ما خدم به إنسانية الإنسان واحترم آدميته وعقيدته وثقافته وعمل بمبدأ المساواة والتعايش، لكن – يا ابني- اليوم امتهنت الإنسانية بكل معانيها وأصبح قتل الإنسان على أساس العرق والدين ونشر ثقافة الطائفية لتمزيق الشعوب وأصبح القوي على حساب الضعيف في الحياة ..ولا سبيل من الخروج من هذه المأساة الإنسانية التي وقع فيها العالم إلى بالعودة إلى الحوار والتعايش واحترام آدمية الإنسان.
أصدقائي. اللهمّ ألهمني الصبر، وقدّرني على خدمة الدين والوطن. وسوف أعود من القرية إلى مدينة صبر مديرية تبن محافظة لحج خلال أيام كما وعدتكم وامتثل الحجر المنزلي، لكن دون أن أترك القات يوما واحدا لان تركه يمثل لي كورونا من كورونات.
.