كتب : سالم فرتوت
كانت مهمة صعبة تلك التي تعين على الشرطي داؤود الاضطلاع بها مع ثلة من زملائه افراد شرطة مركز (ج) فقبل لحظات جاء اليهم بلاغ من قرية (م) المجاورة يفيد بجريمتي قتل اقترفهما شخص ما وهو متحصن الأن في الطابق الثاني من منزلة ويرفض تسليم نفسة .
وعندما دوت رصاصات الاوامر في أذني داؤود للاستعداد بغرض القبض على الجاني ارتعشت اطراف الفتى واصفر وجهه فلابد ان القاتل على درجة كبيرة من الخطورة ! والا ما كان تمادى في تحدي الشرطة وهو كما قد ضحى بشخصين قبل حوالي ساعة فانه لن يتورع في توجيه رصاصات بندقيته الى رؤوس رجال الشرطة هؤلاء الذين هم في طريقهم للقبض عليه في عز النهار .
صحيح ان الشرطة ستحسم الامر في الاخير لكن ليس قبل ان يطيح ذلك الأخرق بمجموعة من الرؤوس , ربما كانت رأس داؤود أولها .
وتهيأ الجنود الآخرون ومعظمهم (شباب نزق) من هواة المغامرة ,
واستقبلوا الموضوع كما لو أنهم ذاهبون الى نزهه يمازح بعضهم الآخر 🙁 لسوف يطيح ذلك الاخرق بقبعتك هذه من على رأسك) , وتطلعت أعينهم إلى السيارة الوحيدة التابعة لقسم شرطتهم كيما تقلهم الى قرية (م) هناك حيث وقع ذلك الحادث للقبض على ذلك الخارج على القانون , عدا داؤود الذي راح يلوك الامنية التالية .
(عسى الله ان يهدي ذلك القاتل , فيتوب الى رشده ويأتي الى قسم الشرطة بنفسه , تماماً كما فعل وسيفعل غيره من الجناة) .
ولكن ياللمصيبة !! فليس ثمة في الافق ما يلوح بذلك .. ولم يجد الالتماس الذي كاد ان يتقدم به طريقة إلى أذني قائد الشرطة , بإعفائه من هكذا مهمة فإنه لعلى علم مسبقاً بالرد سوف ينهره:
(تخاف يا جبان على نفسك .. لماذا التحقت بالشرطة اذاً ؟ الشرطة تريد ابطالاً لا يهابون الموت).
الان فقط ادرك خطورة المهنة التي طالما تطلع الى ارتداء بدلتها منذ كان صبياً وحيثما حل اثار الخوف في الحاضرين هو نفسة كان اذا ما صادف شرطياً اعتراه الفزع وتوجه بوجه مستكين خاضع الى ذلك الرجل الذي يرتدي سروالاً وقميصاً لونهما اخضر وعلى راسة قبعة زرقاء .
انه حينما يخامره احساس بانه ازاء قوة لا تقهر , قوة تمارس سطوتها على الناس كيفما اتفق , والويل لمن قذفها برذاذ فمه! فلرجلها الذي يرتدي بدلتها الحق في اقتيادك أو ضربك بهراواته تأديباً لك .
وقبل سنين سبع اضحت أمنية داؤود حقيقة , انه ليوم منقوش في ذاكرة الفتى عندما تشرف لأول مرة بارتداء البدلة التي طالما شاهد نفسة على شاشة خيالة وهو يختال بها .. فكان يكفي أن يمر شرطي في مكان يضطرب برياح الفوضى فيستعيد ذلك المكان هدوءه وتوازنه . ولقد خيل لداؤود ان العفاريت التي يهابها في الليل .. العفاريت نفسها تلزم اماكنها خوفاً من رجل الشرطة .
بلى .. الى هذه الدرجة كانت خطورة الشرطة ورجل الشرطة فماذا اعترى الناس اليوم , كيما يتطاولون على النظام والقانون ؟ لم يكتفي الاشقياء بسب الدولة والحكومة علناً لا بل انهم يطلقون الرصاص ويقتلون أنى شاءوا وينبري الاحمق منهم من على حصنه متحدياً السلطة .. كهذا الذي فعلها اليوم عندما قتل رجلين ولاذ في منزلة غير آبه لشيء , كأني به يقول : (ما السلطة ؟ ما النظام ؟ ما القانون ؟ .. إني فوق كل هذه الاشياء .)
لكن كله من هذه التي يسمونها ديمقراطية فلولاها ما كانت افلتت الامور وما كان داؤود تعرض لهذا الموقف الذي هو في طريقة اليه , فها هي ذي سيارة الشرطة بلونها الرصاصي , قد انطلقت مسرعة وقد جلس قائد مجموعة الجنود المكلفين باعتقال ذلك القاتل المتمرد الى جانب السائق بينما جلس جنود الشرطة الستة في مؤخرتها وبينهم داؤود , دقات قلبة تكاد تسبق السيارة جراء ما صوره له خيالة من مواقف آتيه عليه .
تخيل القاتل امرءاً غريب الاطوار مستعداً للقتل في اية لحظة رصاصاته تصيب هدفها بدقة متناهية .
اكان مثل هذا الاستفزاز للسلطة سيحدث لولا هذه الفوضى التي يسمونها ديمقراطية عساها ما كانت , من اين جاءونا بها يا ترى ؟
آه لقد تورطت يا داؤود ولم تقض في هذه الحياة ما خلا خمسة وعشرون عاماً وما نعمت فيها كما ينبغي !
وولجت السيارة أول زقاق في القرية أسرع بها سائقها قليلاً ثم هدأ من سرعتها لينعطف بها الى زقاق آخر حتى اذا اقتربت من منزل الجاني تقافز منها الجنود باستثناء فتى في العشرين انبرى خلف رشاش محمولاً على متن السيارة وخاطب قائد المجموعة المطلوب:
(الاخ ناصر , سلم نفسك تسلم , نحن رجال الشرطة .. العنف لن يجديك .. حذار فسوف تندم).
وكان جواب الاخ ناصر رصاصة اطلقها من نافذة في الطابق العلوي من منزلة وكرر قائد المجموعة نداءه مشدداً على كل كلمة يقولها : (يا أخ ناصر , يا أخ ناصر قلت لك سلم نفسك نحن رجال الشرطة لن تتعرض منا لأي أذى..) ومرة ثانية رد الاخ ناصر برصاصة من بندقية , خيل لداؤود أنها تمر فوق راسه مباشرة .
وكان الجنود قد انتشروا هنا وهناك محتمين بجدران بعض المنازل وبحسب الاوامر , انبطح داؤود خلف صخرة كانت تبعد عن منزل الجاني بمائة خطوة واحتمى جندي اخر بجدار منزل ليس بعيداً عن داؤود , وتسلل جنديان احدهما باتجاه شرق منزل القاتل والاخر باتجاه الغرب منه بقصد تطويقه وجعل قائد المجموعة يتصرف بحذر وهو يوجه جنوده .
وصم الرصاص المتبادل بين الجانبين قرية (م) وثمة داؤود يجتاحه احتجاج منقطع النظير بل لقد بلغ به الانزعاج أشده وهو يشهد بأم عينيه نتائج هذه التي يسمونها ديمقراطية التي تشبه في نظره أمراءه قليلة الحياء وأقرب مثال على ذلك هو هذه الجريمة التي اقترفها المدعو ناصر وما اكتفى بذلك .. بل هو ينبري الان من على حصنة متحدياً السلطة بشحمها ولحمها .
أكان ثمة قبل سنين خمس فقط من يجرؤ على شتم الحكومة ولو سراً أو كان ثمة من يستطيع حمل السلاح ويمضي به مزهواً في شوارع المدن والقرى ؟ وما بالك بالقتل ؟
فهذا امرؤ يغتال شخصين في عز النهار اليوم ويلوذ بطابق حصنة العلوي وجعل يصوب رصاص بندقيته الى السلطة ممثلة في جنودها رجال الشرطة موزعاً رصاصاته في كل الاتجاهات .. واحداها مرقت بجوار أذن داؤود الذي كان يطلق رصاصات مترنحه جراء الرعب الذي سلب منه توازنه .
ولقد تفصدت بدلته رعباً وثمة ما هو أخطر الان – أن معدته تنفلت من سيطرته عليها .
آه يا للمصيبة ! فما هذا الثقل الذي يموج بمعدته ومثانته .. اينتبه لذلك الاخرق الذي لما يزل مصراً على تحدي السلطة .. أم يوجه انتباهه إلى هذا البلاء الذي يهدده بالفضيحة ؟
لقد أربكه كل ذلك وأفقده البصيرة , فما هي ذي رصاصة أخرى تهز شعر رأسه .. لتفقده آخر سيطرة له على معدة فسألت محتوياته على البدلة الحبيبة إلي نفسه . سالت من الأعلى ومن الاسفل فيا للفضيحة يا داؤود !! .