كتب .. وليد صالح عياش
هناك لحظة في التاريخ تتكرّر في كلّ عصر، حين يُولد فكرٌ جديد فيرتعد القديم خوفًا ورعبًا.
تلك اللحظة هي لحظة الإبداع، اللحظة التي يقف فيها الإنسان وجهًا لوجه أمام ذاته، أمام الله في أعماقه، محاولًا أن يُعيد تسمية الأشياء كما لو أنّه يراها للمرّة الأولى.
لكنّ الرعب من الجديد هو سُجية كلّ عقلٍ مأسورٍ بالماضي.
فالقوى الراديكالية التي تحرس “الحقّ المطلق” بأوهامها باسم الدين، تظنّ أنّها تحمي الله من الإنسان، ولا تدري أنّها تمنع الإنسان من أن يلتقي بالله في أفقٍ أرحب.
تسجن الوحي في قوالبها، وتُحرِّم كلّ خَلقٍ جديدٍ باسم “البدعة”، وتنسى أنّ الله هو الخالق المبدع،
وأنّ الإبداع جوهر الخلق لا نقيضه.
إنّ قولهم “كل بدعة ضلالة” تحوّل في أذهانهم إلى سيفٍ على رقبة كلّ فكرةٍ حرّة،
فصار المبدع عندهم ضالًّا، والفيلسوف زنديقًا، والعالم متَّهَمًا،
وكأنّ الله أرسل الرسل ليُغلقوا باب السماء، لا ليفتحوه. وهم الفاتحون لما اُستغلق.
الإبداع، كما قال د. مراد وهبة، “هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع”.
وبناءً على هذا التعريف، الذي أراه دقيقًا وعميقًا، نجد أنّ الذين يعادون الإبداع إنّما يعادون الحياة نفسها،
ويخاصمون التطوّر، ويناصرون الجمود والخمول،
لأنّ الإبداع هو نهر الوجود الجاري، بينما هم يقفون عند الضفاف،
يخشون الموجة التي قد تُغرق تصوّراتهم، ولا يرون أنّها وحدها القادرة على أن تُطهّرهم من الركود والجمود.
ولذلك سيبقى السؤال:
كيف نزيل الرعب من الإبداع؟
لا يمكن أن يزول الرعب من الإبداع إلا بتذوّق الإبداع نفسه،
ولا يمكن تذوّقه إلا بالحبّ؛
فمن أحبّ الجمال الإلهي في خلقه، أحبّ أن يراه متجدّدًا في فكر الإنسان.
ولا يُكشف الإبداع إلا بعقولٍ شجاعةٍ، تسير نحو المجهول بإيمانٍ لا يخاف النور.
الإبداع ليس عبثًا، بل عبادةٌ عليا،
فمن أبدع فقد شهد الله في خلقٍ جديد.
الإبداع واستمرارية الرسالات:
الله وصف نفسه بأنّه المبدع المبدئ المعيد، وهنا تتجلّى الحقيقة الكبرى:
أنّ استمرارية الرسالات الإلهية هي الوجه الأعلى للإبداع نفسه.
فالرسالات ليست أحداثًا منقطعة في تاريخ البشر، بل هي تجدّدٌ دائمٌ لحقيقةٍ إلهيةٍ واحدة،
إنّها انبعاثٌ متكرّر للنور كلّما خبت القلوب وتصلّبت العقول.
وكلّ رسولٍ إنّما جاء ليُعيد للعالم القدرة على تكوين علاقاتٍ جديدةٍ بين الإنسان والسماء، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون.
فحين يُهاجَم الإبداع باسم “البدعة”، إنّما يُهاجَم النبض نفسه الذي حمل الرسالات على مرّ التاريخ.
وحين تُكرَّم العقول المبدعة، فإنّما تُكرَّم الرسالة المستمرّة في قلب الوجود،
رسالة الله المتجدّدة في صورٍ جديدةٍ وألسنةٍ جديدةٍ وأقوامٍ جديدة.
إنّ كلّ فكرةٍ أصيلةٍ تفتح أفقًا جديدًا أمام الوعي هي آيةٌ من كتابٍ ممتدٍّ لا ينقطع،
وكلّ روحٍ تُبدع في الخير والجمال هي حاملٌ صغيرٌ لوحيٍ يتنزّل في قلبها.
هكذا يصبح الإبداع جسرًا حيًّا بين الأرض والسماء،
وحين نعبره، ندرك أنّ الرسالات لم تنتهِ،
بل ما زالت تتدفّق في كلّ ضميرٍ يجرؤ على أن يُبدع،
وفي كلّ عقلٍ يتذوّق طعم الخلق من جديد.















