كتب .. ابتهال عبد الوهاب
القتل المعنوي جريمة لا يقيم لها القانون محكمة، ولا يسمع فيها صوت الادعاء، ولا ترفع عليها دعاوى. ومع ذلك، فهي أفتك من طعنة خنجر، وأعمق من رصاصة تستقر في الصدر.
إنه القتل الذي لا يريق دما، بل يريق المعنى من الأرواح، ويجعل الإنسان يعيش وهو في الحقيقة ميت من الداخل.
كم من ضحكة سرقت، وكم من قلب علق في منتصف الطريق، وكم من روح أطفئت فيها شموع الأمل بكلمة واحدة جارحة أو نظرة ازدراء.
هذه الجرائم لا ترى، لكنها تشعر؛ لا تكتب في السجلات، لكنها تنقش في القلوب.
الفيلسوف والكاتب الحقيقي هو من يدرك أن الكلمة قد تميت أكثر مما تحيي، وأن الصمت أحيانا يساوي جريمة الإهمال.
والحكيم يدرك أن القلوب، حين تكسر، لا تصدر صوتا، لكنها تغير شكل العالم في الداخل.
لقد وعى الشعراء والفلاسفة قبل القوانين هذا النوع من الموت البطيء، فحين قال الحصري القيرواني:
“كلا لا ذنب لمن قتلت عيناه، ولم تقتل يده”
كان يشير، من وراء ستار العشق، إلى أن العيون قد ترتكب جريمة لا تقل فتكا عن يد القاتل.
فمن يحيي الأمل في قلب، ثم يخذله عند أول منعطف، يشبه من يشعل شمعة في كهف مظلم، ثم ينفخها ضاحكا وهو يغادر.
أن تعلق قلبا وتتركه معلقا بين الرجاء واليأس، فذلك جريمة.
أن تزرع في أحدهم وعدا جميلا، ثم تقلعه من جذوره، فذلك قتل مؤلم.
أن تلقي كلمة جارحة على وجه بريء كان ينتظر منك دفئا، فذلك طعن لا يشفى.
القتل المعنوي ليس حدثا عابرا، بل تآكل صامت في نسيج الوعي والوجدان، يترك الإنسان غريبا عن ذاته، متوجسا من الحب، خائفا من الثقة، ساخرا من الحياة.
والمجتمع، حين يتساهل مع هذه الجرائم، يتحول إلى ساحة من الجناة والمجني عليهم، يبتسمون لبعضهم في النهار، ويختنقون بالليل من أثر الطعنات الخفية.
إن أخطر الجرائم ليست تلك التي تكتب في محاضر الشرطة،
بل تلك التي تكتب في الذاكرة، وتبقى هناك إلى الأبد…
توقظنا كل ليلة لتقول:
“لقد قتلت يوما، ولم ينتبه أحد.”
يا ليت الناس يدركون أن القتل لا يكون بالرصاص وحده،
بل بنظرة تطفئ، بصمت يقصي، بكلمة تهين، وبخذلان يزرع الموت في قلب كان حيا.
ليتنا ندرك أن الكلمة قد تقتل كما تقتل السكين،
وأن التجاهل، حين يمارس عن عمد، أقسى من الفقد،
وأن الحب، حين يستخدم لعبة، يتحول إلى مقصلة للقلوب النقية.