كتب .. أ. صالح القطوي
باحث أكاديمي جامعة عدن
قصيدة الشاعر أحمد حرمل تتدخل فيها عدد مـن المعطيات الفلسفية، الـذاتية، الـوجودية والوطنية. تتشكل فيها ذاتية الشاعر باعتباره معادلا موضوعيا لوطنه العريق بحضارته، وبلاده الفقيرة بحاضرها.
وأول ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة عنوانها (لست أدري) قصيدة (الطلاسم) للشاعر إيليا أبي ماضي، ومطلعها :
*جئتُ، لا أعلمُ مِـن أيـن ، ولكنّي أتيتُ*
*ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً، فمشيتُ*
*وسأبقى سائراً ان شئتُ هذا أم أبيتُ*
*كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟*
———————— *لستُ أدري*
وكأن شاعرنا اقتبس منها هذه اللازمـة (لستُ أدري) كعنوان لقصيدته، لكنها بعد ذلك تختلف في الرؤية والبنية اللغوية والفنية.
فقصيدة الماضي فلسفية بحثة تتعلق بموقفه هذا الوجود.
وقد التزم في بنيتها اللغوية هذا الشكل في مقاطعها الخمسة، التي تتطابق أبياتها عدد ساعات الزمن.
بينما الشاعر حرمل تجاوزت الثمانية ستين سطرا، واكتفى بالوقوف عند تلك التساؤلات في تقديم ذاته الحائرة:
*لستُ أدري مَن أنا ؟*
*فأنا لستُ هنا*
*وأنا لستُ هناك*
وإذا كان الماضي يكشف عن حيرته، بقوله:
*هـل أنـا حُـرّّ طليـقٌ أم أسـيرٌ فـي قـيودْ؟*
فإن حرمل يؤكد امتلاك حريته وفقا لرؤيته الاجتماعية كشاعر وصحفي يتماهى مع وطنه، لا سواه، ويؤمن بحرية الكلمة، بوصفها (سلاحه) الذي يأبى الانقياد، يقول:
*يا رفاقي معذرة*
*كل هذا قيل عني*
*وأنا ذنبي أني*
*حر صعب الانقياد*
*لا أجيد الاصطياد*
*في المياه العكرة*
*يا رفاقي معذرة*
*فسلاحي كلمة*
*حرَّة ملتزمه*
*تابى التماهي والحياد*
لذلك يتخلى عن حيرته الذاتية في تركيب (لستُ أدري) تدريجيا، ويأتي بلازمة جديدة (يا رفاقي معذرة) وضعها في مقدمة عدد من المقاطع التي تجاوزت مقاطع قصيدة الماضي عددا ومساحة، ليؤكد حضوره كمثقف للكلمة الحرة الملتزمة، وكوطن يحمل هم الجياع فيه.
وهذه اللازمة كفيلة بأن تكشف انتماءه الاجتماعي واغترابه الذاتي المتجذر بوجوده المكاني (هنا، هناك) في قوله السابق، وبضياع العمر وذوبان الحلم بوصفهما (رأس ماله كإنسان) في هذا الوجود، لكنه ضياع يتشكل في سياق لغوي يتعلق بمهنته كشاعر يمتهن اللغة بوصفها أداته، فهو ضياع أشبه بالرفض لتلك القيود الوضعية من نحو وصرف أو حركات وحروف:
*ضاع عمري*
*ذاب حلمي*
*بين تنوين ونون*
وهنا يتجلى اغترابه الزماني المتمثل بـ(ضياع العمر) الذي ربطه بين مسارين: الأول: (اللغة) بوصفها الأثر الذي سيخلد إنتاجه الفكري والإبداعي.
والآخر: الفعل (الثوري) المنتمي إليه ضمن رحلة (الرفاق)، لكنه مسار يتجسد بانتمائه الوطني (الأرض، والشعب) ويكون أشد ارتباطا بثورة الجياع، ولذلك يعلن وفاءه وانتماءه إليهم:
*يا رفاقي معذرة*
*سأظل رمزا للسلام*
*آبى الحروب القذره*
*سأظل حقــلا للسنابل*
*وأظل عنوان الجياع*
*رفيقهم فـي القافلة*
وفيه يكشف عن ضياع بلاده وعن وعورة طريقه:
*فـ دروبـي وعـرة*
*ومـداراتي ظلام*
*وخطوبي خطرة*
*أرضنا شوك زؤام*
*بالفخاخ مزهرة*
وعن وقوع (بلاده) تحت عدد من التآمرات التي استباحت عرضه وأباحت دمه:
*استباح الليل عرضي*
*ودمي صار مباح*
برغم المؤشرات التي تحكي حق شعبه المستباح بيد الطامعين:
*رنة الأجراسِ تحكي*
*حق شعبي المستباح*
إن اعتذار الشاعر لرفاقه هو اعتذار الوطن المثقل بالهم الجغرافي والشعبي، الحائر في فهم أمره، المفرغ من قيم التنوير، المتشظي بين عدد الأضداد (هنا، هناك، صبح، ليل) بفعل المكان واللغة التي أعلن الشاعر تدميرها نحويا وعروضيا، وفي علامات الترقيم، والضرائر الشعرية.
وهذا ما ستكشف عنه قراءتنا التحليلية، لبنية القصيدة اللغوية والفنية.
أولا : *البـــــناء اللغــــــوي:*
لا شك أن البناء اللغوي يتعلق بمعجم الشاعر من مفردات وتراكيب والجمل الخبرية والإنشائية. التي تتشكل في إطار تجربته الشعورية.
ومن هذا المنطلق يتبين أولا تمرده على قواعد اللغة وعلامات الترقيم التي تكاد تكون مرفوضة (معدومة) في هذه التجربة، وكأنها رفض وانتفاضة لا نقول على قواعد اللغة وإنما على واقعنا المعاش، الذي يمكن للغة ان تواري خلفه أكثر من معنى في حال بقيت مثلا لفظة (الاعراب) بدون همزة قطع، أي منفتحة على أكثر من قراءة، في قوله:
*أين موقعنا من الاعراب*
*من بين الشعوب*
فلا يمكن أن نقول إن الشاعر لا يجيد وضع علامة الاستفهام ولا أن يميز بين رسم همزة القطع على الألف أو تحتها.
وإن كان قصد توظيف هذا القول المألوف في حياة العامة، لكن هذه اللفظة قد نستسيغها في سياق البناء العام (القصيدة، الوطن) كمؤشر على من ذمه في هذا العصر وفقأ عينه كما حدث له بالأمس القريب.
إن علَمِيّة الأسماء تشكل عائقا إزاء فهم هذا الواقع الوطني:
*أترى اسمي أحمد*
*أو صلاح، أو محمد*
وهذا الغموض له دلالة رمزية (أنا/ الوطن) يفضي إلى سؤال عميق:
*كيف صبحي صار ليلا ؟!*
إذن ليس الإشكالية في علميّة الأسماء السابقة وإنما في رمزيتها التاريخية والحزبية والسياسية وفعلها الذي صير صبح الشاعر ووطنه ليلا، وبسببها تشكل ضياع العمر وذوبان الحلم (بين تنوين ونون) الذي يوحي بالإنكسار سواء بفعل الليل الذي استباح عرضه وأهدر دمه أو بفعل (الرياح) التي أتت على تلك التجربة قبل صولها إلى بر الأمان، أو بفعل اللغة التي تعتري أبناء وطنه ثقافة وانتماء.
وهي من جهة أخرى تبين حيرته ليس في فهم اللغة فحسب وإنما في فهم واقعه (حائر في جب أمري) في بلاده الفقيرة مع ما فيها من الجياع.
وهذه الحيرة تتجلى في حضوره كفاعل مع رفاقه ووقوفه إلى جانبهم، وتتحول الذات المغتربة من (لست أدري من أنا) إلى عنصر فاعل ضمن الرفاق، من خلال تكرار الفعل (سأظل) المتطلع لمستقبلهم وللتخلص من غربته، برغم وعورة الطريق:
*سأظلُّ رمزاً للسلام*
*أبى الحروب القذره*
*سأظل حقلا للسنابل*
*وأظل عنوان الجياع*
*رفيقهم في القافلة*
ويتحول اعتذاره في نداء رفاقه إلى فعل ورمز للسلام، وإلى رفض للعنف، وإلى حقل للتواصل والعطاء، وإلى عنوان صحافة وشعر لمناصرة الفقراء ورفيقهم في قافلة بلاده المثقلة بمؤامرات الأعداء.
ويتجلى حضوره ضمير المتكلم وضمير الفاعل البارز والمستتر مقارنة بضمائر الغيبة والخطاب الجمعي.
فالشاعر في مطلع القصيدة قبل أن يتساءل ينفي معرفته القطعية بذاته (لست أدري من أنا)، وكأنه جرد من ذاته وطنا، يخاطبه:
*أنتَ في حكم السكون*
وهذا السكون يتجلى في بنية لغة الشاعر كضرورة ملحة تفرض نفسها من البناء اللغوي للقصيدة، على الرغم من أن الشاعر المعاصر أقل استعمالا للضرورات الشعرية، إلا أن حرمل قصدها لأجل سلامة الوزن تارة وتارة أخرى للتعبير رفضه وحريته في التعبير وحرية الكلمة الملتزمة بالفكر والمعترك السياسي والثوري تتطلبه التجربة في وقت عصيب تمر به بلاده.
لكنه في ختام تجربته يجد نفسه متفائلا بضوء الصباح، لتأكيد روح الأمل وتجاوز الصعاب.
ثانيا : *البــــــناء الفــــــــني:*
يخضع هذا البناء لمنحيين: الأول: بالبناء الخارجي للقصيدة (البحر والقافية)، والآخر بالبناء الداخلي للغة من (تكرار، وجناس، وتضاد)، وما إلى ذلك من أصوات تكسب القصيدة مذاقا خاصا.
وقد تبين من مبحث البناء اللغوي تمرد الشاعر على قيود اللغة من نحو وصرف، كذلك يعلن تمرده عن أحكام الخليل وقواعد الشعر المعاصر. فالقصيدة تنتمي إلى شعر التفعيلة (الشعر الحر)، أي أنها منفتحة على البناء السطري، لأكثر من بحر عروضي ومراعاة لتنويع الإيقاع في التفعيلة سواء بإدخال الزحافات وتنويع صور الأضرب.
فالمقطع الأول من القصيدة يضعنا أمام بحري المديد (وهو من البحور المزدوجة) والرمل ذي التفعيلة الصافية:
*لستُ أدري مَن أنا*
*فأنا لستُ هنا*
*وأنا لستُ هناك*
*قيل إني مبتدأ*
*ربما صرتُ خبر*
*أو مضارعْ أو مضاف*
*في علوم النحو قالوا:*
*أنت في حكم السكون*
ثم البحر الكامل والرجز في مقطع آخر وهما من البحور الصافية:
*سأظل رمزا للسلام*
*-رفيقهم في القافله*
*ربناهم وقت الصعاب*
*نبراسهم والبوصله*
وكذلك نوّع الشاعر بين القوافي المطلقة الموصولة بالهاء، والمقيدة المردفة والمجردة، وحروف الروي وفقا لكل مقطع مما قد يكسبها تنغيما خاصا، قائما على التجاور والتناوب، نحو قوله:
*يا رفاقي معذرة*
*فدروبي وعرة*
*ومداراتي ظلام*
*وخطوبي خطرة*
*أرضنا شوك زؤام*
*بالفخاخ مزهرة*
والدراسات الحديثة تنص على فشل أي دراية صرفية أو نحوية لا تأخذ بالحسبان الجانب الصوتي للظاهرة المدروسة.
كصور الجناس الناقص (استباح عرضي، وباح دمي) لتحقيق شيئا من التناغم في البنية الداخلية للقصيدة.
ومن هذا المنطلق تبين حضور عدد من أصوات الحروف الساكنة وحروف العلة (الألف١٦١، الواو٥٦، الياء٨٠) مقارنة بغيرها من الأصوات التي وظفت للتعبير عن الإيقاع النفسي للشاعر مع طبيعة القوافي والمحسنات اللفظية والمعنوية التي استدعتها تلك التجربة، حرف (اللام٨٤، الميم٦٢، الراء٥٨، النون٥٠)، ثم حرف (الباء٤٣، والحاء٢٦، والتاء٢٤). وهذه الأصوات تتوافر قوافيه وفي الضمائر وحروف الربط.
فلو أخذنا قوله :
*لست أدري من أنا*
*فأنا لستُ هنا*
*وأنا لست هناك*
وقوله:
*أو أبالي بالنباح*
فحرف الألف يؤكد على حضور الذات وانفتاح التجربة على واقع مرير (بالبلاد المقفرة) جاء منكسر بين تنوين ونون، وهي علامات فارقة لها مغزاها، فضلا عن عنصر التكرار الذي يتجلى في الجملة المفتاحية (يا رفاقي معذرة) لعدد من مقاطع القصيدة. ثم في توظيف فعل السرد (قيل) المبني للمجهول، للتعبير عما قيل عنه (كوطن) في مبتدئ التاريخ (قِيلَ إني مبتدأ) وما صار إليه اليوم كخبر في صراع الحضارات:
*قيل إني نكره*
*قيل مستثنى بإلا*
*قيل مرفوعا بضمه*
*قيل معطوفا بواو*
*قيل ممنوعا من الصرف*
*ومنصوبا ومجرورا بكسره*
هذه البنى الأسلوبية تعبر عن عدد من مصطلحات علم النحو، لكنها في حقيقة الأمر تكشف عن بعد آخر يتجلى في صيغة الاستفهام الذي اختتم به هذا المقطع:
*أين موقعنا من الاعراب*
*من بين الشعوب*
فالشاعر لا يسأل عن المصطلح النحوي بل عن موقعه (كوطن) بين شعوب المعمورة، بدليل قوله (من بين الشعوب) عن كونه صاحب إرث حضاري وتاريخي في هذا العالم، والذي باتت تتحكم به حركة (الاعراب) من دون أن يفصح موقع الهمزة إن كانت على الألف أو تحتها كتورية لرمز الحرف صورته وصوته.
ثم في تلك الصور التي أراد إيصالها سواء تلك الرياح التي تغازل مجاذيفه، أو وهو ضمن قافلة رفاقه.
الأولى تستدعي صورة زورق في بحر الوطن والممتد على ظهر هذا الوجود.
والأخرى تشير إلى سير القافلة على بر هذا الوطن الممتد من البحر إلى البر في عمق الحضارات وتاريخها القديم والوسيط والحديث.
وفيما يلي نص القصيدة :
لست ادري
احمد حرمل
لست ادري من انا
فانا لست هنا
وانا لست هناك
قيل اني مبتداء
ربما صرت خبر
او مضارع او مضاف
في علوم النحو قالوا
انت في حكم السكون
* * *
اترى اسمي احمد
او صلاح او محمد
كيف صبحي صار ليلا
ومجاديفي تغازلها الرياح
ويراعي جف حبره
وجفا نثري وشعري
وقوافيه الملاح
رنة الاجراس تحكي
حق شعبي المستباح
* * *
قيل اني نكره
قيل مستثنى بالا
قيل مرفوعا بضمه
قيل معطوفا بواو
قيل ممنوعا من الصرف
ومنصوبا ومجرورا بكسرة
اين موقعنا من الاعراب
من بين الشعوب
* * *
يارفاقي معذرة
كل هذا قيل عني
وانا ذنبي أني
حر صعب الانقياد
لا اجيد الاصطياد
في المياه العكرة
يا رفاقي معذرة
فسلاحي كلمة
حرة ملتزمه
تابى التماهي والحياد
شوكة في الخاصرة
* * *
يارفاقي معذرة
أثقل الكاهل همي
حائر في جب أمري
بالبلاد المقفرة
في متاهات الجنون
ضاع عمري
ذاب حلمي
بين تنوين ونون
* * *
يارفاقي معذرة
فدروبي وعرة
ومداراتي ظلام
وخطوبي خطرة
أرضنا شوك زؤام
بالفخاخ مزهرة
* * *
يا رفاقي معذرة
ساظل رمزا للسلام
أبى الحروب القذره
ساظل حقلا للسنابل
واظل عنوان الجياع
رفيقهم في القافلة
ربناهم وقت الصعاب
نبراسهم والبوصلة
* * *
ذمني ابن سلول
فقأت عيني سجاح
وبفتوى شيخ كذاب جهول
استباح الليل عرضي
ودمي صار مباح
رغم هذا سوف امضي
لست اخشى من شرك
أو ابالي بالنباح
من ثنايا المعترك
طالما مازال نبضي
ليلكم سوف يزول
ويكحل اعيني ضوء الصباح















