د محمد مسعد العودي
رواية على النقيض من الحب للساردة أسماء الطيري صدرت حديثا عن دار عناوين القاهرة وهي باكورة الساردة، وحين أهدتني الساردة أسماء روايتها ظننتُني سأقرأ روايةً لساردة مبتدئة متمنياً أن أجد فيها شيئا متميزا لأن السرد النسائي في اليمن يجتمع على الرداءة إلا القليل وتمنيت أن تكون رواية أسماء من هذا القليل كرواية فاتن عبدالله رماد الذاكرة وقد كان، فحين بدأت أقرأ الرواية دهشت بجماليات اللغة وتصور الفتاة الصغيرة أسماء لماهية الرواية وتقنياتها ووظيفتها بطريقة أدهشتني فوجدتني أعلن عن مولد روائية متميزة تخرج من تحت سكون مدينة الضالع المحاصرة بالذكورة إلى فضاء الإبداع النسوي الحصيف لتنافس كبار الكاتبات العربيات لكنها تختلف إذ تكتب بطريقة الكاتبة المدركة لماهية ما تكتب وللوسط الذي تكتب له متمثلة الثقافة العربية الإسلامية غير متنكرة لتلك القيم التي تربت عليها بل عملت جاهدةً على تبني تلك القيم الفاضلة التي سار عليها مجتمعنا ولم تشطح كما شطحت بعض الروائيات اليمنيات والعربيات قافزةً فوق قيمها لكي يمتدحها نقاد التجديف لتشتهر من خلال مخالفتها للسائد، بل كتبت عن مأساة الوطن القتيل الذي طحنته الحروب ودعاة الفتنة من أجل أن يكونوا أسياداً لا لأي شيء آخر فلا كانوا أسياداً ولا سلم منهم الوطن بل عبيداً منبطحين لغيرهم من الزعامات المنبطحة هي الأخرى لغيرها.
عتبة العنوان
العنوان هو العتبة التي نلج من خلالها إلى عالم النص فقد كان العنوان: “على النقض من الحب” حين تقرأ العنوان مباشرة يتبادر إلى الذهن أن نقيض الحب هو الكره لكنها لم ترد الكره بل أرادت الكره الذي ولد الحرب وقد أعلنت عن ذلك في آخر فقرة من الرواية.
“على النقيض من الحب توجد الحرب .. على النقيض من الحب حيث يتواجد قتلة فريد ومن شابههم … وفي مرمى حربٍ كان يوجد فريد بغير ما ذنب .. قبل موعد قذيفةٍ كان في منزله الذي ظنه آمناً يرسم علم وطنه .. سكنت في جسده الصغير شظايا الكاتيوشا بينما كان ينتقي ألوان العلم وهو يردد ” أحمر , أسود , أبيض “.. وحتى قبل أن يلون علمه الذي رسمه لأنه أحبه حمل جسده المرتجف إلى الموت ليلون عنه حال وطنه … بالأحمر لونت دماء فريد”
فلا شك أن العنوان كان يمثل دالا مكثفا على ارتباط الرواية وساردتها بالوطن وحبه تاريخا وحاضراً ومستقبلاً.
العتبة الثانية الإهداء
“إلى البسطاء …
يحملون الوطن في قلوبهم حُلُماً عندما سلبتهم إياه حربٌ .. ليُخلق الوطن من جديد .. في التماع الدمع في أعين الفاقدين … في ابتسامات المعدمين .. في أغاني الحزانى ..
في دعوات الأمهات .. في ابتهالات المسنين ..
ثم في القادم الآتي لا محالة”.
ويتجسد في عتبة الإهداء حب الساردة للوطن المباح حب بسطائه القادمين من الحزن والذاهبين إلى الحزن لكنها لم تفقد الأمل بعودة السعيدة إلى سعادتها يوما وما ذلك على الله إلا هينا يسيراً.
العتبة الثالثة الاستهلال
“لا شيء في الوجود أسمى من الحياة .. ولا أعلم سبباً مقنعاً يدعوا البشر لسلب الحياة من بعضهم بعضاً .. إن من يتسبب في سلب الوجود أسما أشيائه لهو في الواقع أدنى من فيه . أسماء الطيري”
عادة ما يكون الاستهلال عند كثير من الروائيين عبارات لفلاسفة أو لروائيين غربيين، أسماء الطيري لا.. لم تفعل ذلك لأنها مختلفة وقد صاغت استهلالها بنفسها وهل نحن عاجزون أن نقول ما يمكن أن يقوله رجل غربي، متى عقمنا عن ذلك وهنا أتيت لأعلن إعجابي بالتحدي وإعجابي بالعبارة التي لا تقل شأناً عن قول أي كاتب بلغ قمة عطائه، لعلي هنا ملت للمدح نعم هو كذلك فمثل هذا يستحق منا مدحاً.
تدور أحداث الرواية حول الفتاة ندى التي تتمزق أحلامها وتتبدل حياتها وحياة الناس من حولها جميعا بفعل الحرب العبثية التي هدفها تسيُّد طائفة مارقة على رقاب الناس بقوة السلاح وحقها الإلهي بحكمنا أو قتلنا، فتفقد ندى حبيبها وبعضا من أهلها وأصدقائها ثم تفقد أمها التي كانت طبيبة تعالج الجرحى في جبهات القتال وحين تضيق بها الحياة ذرعا تسافر لتكمل دراستها العليا في هولندا وقد كان ذلك منفىً لها.. لم ينفها أحد لكن شعورها بالمرارة هي التي نفتها فما حاجتها لوطن لم يبق لها ما تلتفت عليه لكنها بدأت تحن للوطن وما زالت لم تصل المطار بعد.
” المطار .. من حيث نبتعد عن أوطاننا لنكتشف مدى قربها منا.. نغادرها مهربين أحلامنا لتسكن هي في أحلامنا .. تراودنا عند كل حنين وحنيننا يقظٌ لا ينام .. المفترق من حيث نبتعد عن أوطاننا مقتفين آمالنا لتقتفينا هي أشواقاً وانتماءً.. على كرسي الانتظار جلست إلى الوطن .. بشرودها تحظر ذكرياتها , وعلى طريق الرحيل تنتمي للعودة أكثر مما تنتمي للغياب .. يخبرها الحنين ذلك .. حنين داهم قلبها على حين ذكرى .. تلك الذكرى التي تقبع في المطارات لتتلبس قلوبنا وتحجز فيها ركنها حيث تبقى ولا تزول”.
المكان البديل
حين وصلت إلى هولندا وصلت إلى الوطن البديل وهو حلم كل شاب وشابة فتنبهر بالمكان.
“لها رائحة التوليب “الخزاما” وموسيقى المياه المنسابة بخجلٍ ونكهة الجبن وجرأة الصراحة…. هولندا أو نيدرلاند كما يطلق عليها .. هنا لا يسعك إلا أن تشعر بالسعادة , خاصة إذا ما كنت في فينيسيا الشمال أمستردام عاصمة هولندا.. قوس قزحٍ طويل ٍ من الأزهار الملونة يمتد على الأرض لأربعين كيلو متر هو ما يسمى ” بلويمن روت ” أو طريق التوليب .. فيه تصطف التوليبات من منطقة هارلم شمال هولندا حتى تصل إلى منطقة نوردويك و ليدن .. سيل من السعادة والجمال ورائحة التوليب العطرة سوف يرافقك طوال طريق ” بلويمن روت ” لتتسلل السعادة من عينيك وأنفك وحتى من قدميك فتجد روحك تتلون بألوان التوليب البهيجة.. جسرٍ حجري مرصوصة أحجاره بأناقة , أسفل منه تنساب بسحرٍ قنوات ٌ مائية أربع هيرن جراخت , كايزرس جراخت , برنسن جراخت وسينغل .. تستطيع الإبحار على مياهها لتبحر معك على ضفتي انسياب المياه المباني الأثرية والمنازل العتيقة ذات أسقف الجملون والتي يكشف لك مظهرها نوعية الحياة الباذخة التي كان ينعم بها أثرياء أمستردام في العصر الذهبي الهولندي والذي دخلته هولندا في القرن السابع عشر.. يُحصر الجمال في زاوية انعطاف حزام القنوات المائية فيما يشبه نصف دائرة من الجهتين الجنوبية والغربية لأمستردام ويُبقي على نبض الجمال فيها حيٌ لا يتوقف .. زر أمستردام مساءً أو زرها صباحاً , زرها أنّى شئت ستجدها جميلة في أي وقت.. ما قد يثير عجبك من الهولنديين هي صراحتهم ؛ إنهم يتصفون بصراحة صادمة ..!! إذا كنت تجلس مبتهجاً في حديقة فوندل بارك أو تتمشى على الجسر الضيق الممتد فوق نهر أمستيل وسط أمستردام أو ربما في ساحة دام سكواير فلا تستغرب إذا سمعت الشخص المحاذي لك يقول لك إن تسريحة شعرك غير مناسبة أو إن هندامك ليس مرتباً ؛ بالتأكيد سيكون هذا الشخص هولندياً … فصراحتهم كما قيل عنها صادمة.. أن تسمع مثل هذا من هولندي ما فإنها ليست فظاظةً منه ولكنه طبع الهولنديين الصريح الذي يعرفون به” .
كانت الساردة على وعي تام بالمكان وجمالياته وجماليات اللون والرائحة والمشهد التفصيلي والكلي فقد ظننت أن الساردة أسماء زارت هولندا ولكنني حين سألتها عن ذلك قالت إنها لم تزر هولندا وهذا يدل على وعي الكاتبة بأهمية المكان الروائي وماهيته.
المكان اللون والوطن
تنبهر ندى بالمكان الأوروبي الباذخ ألواناً وأضواءً ومياهاً وإنسانا وتنبهر حتى بسلوك من يتحركون على أدم المكان.
“كما هي فتنة أمستردام عندما تنعكس أضواء جسر ماجيري على مياه نهر أمستيل فاتنات هن نساء هولندا .. شقراوات أو ذوات شعور ملونة , بملابس قصيرة تكشف عن سيقانهن المعتنى بها بتكلف .. يشهد على ذلك طلاء أظافر منمق وبشرة لامعة تكاد أن تعكس أضواء أمستردام …لا تكاد إحداهن تدخر جهداً في إظهار مفاتنها وكامل زينتها ؛ غير أن فتنتهن تلك تتبدد بتبرجهن الجريء وعريهن السافر والذي لا يترك لك ذلك التساؤل الآسر الذي يبقي قلبك معلقاً بسواد عباءة إحداهن أو مكتّفاً بلفة حجابها .. !
لسن بأكثر فتنة من تلك العدنية التي تتمشى بدلال بمحاذاة الموج على شواطئ عدن .. تغازلها رياح الشاطئ وأمواجه في آن لتظفر الأولى برائحة بخورها العدني وعطر الفل بينما تظفر الأخرى بقدميها وأطراف عباءتها ؛ تبللهما مع اندفاع كل موجةٍ إلى الساحل وكأنها تؤدي لتلك العدنية نسك حبٍ”.
لقد كان المكان فاتنا وجذابا ومغريا بكل تفاصيله الساحرة لكنه لم يلفت ندى إليه حتى يأخذها إليه فتتماهى معه بل نبهها لجمال أمكنة الوطن الجريح الذي عبث به تجار الحروب.
“ولسن بأكثر فتنة من صنعانية تتجول في أحد أحياء صنعاء القديمة تنسدل من على رأسها تلك الستارة الحمراء معلنةً بانسياب انسدالها ذاك.. الغيرة والتحفظ على جمالٍ صنعاني ليس لكل أحدٍ الحق في رؤيته .. تضيع أنت في اتساع الستارة محدقاً لتجد نفسك في قصيدة غزلٍ صنعانية … ! ولسن بفتنة تعزية تتجول في سهول تعز الخضراء بينما يرقد مشقران اثنان على جانبي خديها وكأنهما يحرسان بقعة الجمال التي تقبع بينهما , تغني هي لإطلالة جبل صبر بينما تغني تعز لإطلالتها”.
أمكنة الوطن إنسان الوطن ألوان الوطن لا شيء يشبهها مطلقا على الرغم من انغماسها بهذه الجماليات التي تدهش كل ذي لب لم تفقدها إحساسها بالانتماء إلى غير هذا الوسط، الوطن ليس في الخارج إنما هو في المشاعر والمشاعر الحية لا تموت ويظل الوطن الميت حيا في عمق الذات لا يموت ينبهها كناقوس إن غفت عنه، كانت ندى في أمستردام جسدا روحه في الوطن أو أن الوطن ظل مسافراً في الروح تنبهها الأمكنة والأزمنة والحكايات فينهض منتصبا أمام البصيرة مطلقاً.
الوطن الفاجعة
الوطن هو فاجعة الذات الكبرى ففيه يموت الخلان بدم بارد وبالمجان ولمَ؟ وعلامَ؟ أسئلة لا إجابة منطقية لها.
“هي ذي أيامها الدراسية الأولى حينما كانت تُلقن تأدية فروض الولاء لراية وطنها تقف ومن خلفها طابور طويل من الأطفال في مثل سنها .. تنتصب بكامل استقامتها بوجهها المرتفع نحو راية الوطن تعاهدها الولاء والفداء بينما ظلت الراية بشموخها العالي ترفرف وتنتفض بحركة الموج وكأنها تهش من على قمم وطنها دواعي التعاسة وتحرسه من مكانها المرتفع ذاك … بينما هي كذلك تمتلئ دواخلها انتماءً لوطنها ورايتها , تنظر بذلك الكم من الإعجاب للوطن متجسدا في رايته فإذا بها تقف أمام تلك الراية مجدداً وقد لفت جسد عمار الممدد أمامها وإلى جواره العديدين ملفوفة أجسادهم بذات الراية”.
هنا تحدث المفارقة بين وطن الأمس ووطن اليوم بين الطفولة والشباب بين وطن النشيد ووطن النشيج.. تصور الساردة المأساة باقتدار وتستطيع أن تقنعنا برؤيتها للواقع بقوة حجاج يصدم المنطق العقلي بالمنطق العقلي والعاطفي فهي لا تقنعنا فقط بل تثيرنا حد البكاء.
” عمار همست إلى جواره بصوتها المبحوح وروحها الباكية”.
لقد حولت الحرب الوطن في نظر الساردة إلى رصاص ومدافع وتدمير وخراب وجثث ونعوش وقبور.
“ها هو ذا أمام ناظريها جسد الشخص الذي أحبت ملفوفا براية الوطن الذي أحبت في لحظة شعرت خلالها أن الحب والأمان قد زويا عنها إلى الى الأبد … بأنفاس متقطعة لا زالت تخاطبه بجسده البارد أمامها : عمار .. ذلك الركن في الصحيفة التي كنت تكتب فيها كنت تعنونه: الوطن السعيد، حتى الآن كنت أظنه كذلك , وطناً سعيداً حقاً.. أما وقد مِتّ فكل الأشياء استحالت شقاءً .. وطني .. وقلبي .. وركن صحيفتك”.
كيف كان وطن الأمس وكيف كان وطن اليوم الوطن هو الوطن لكن الرجال اختلفوا وسيطر الأشرار على الأخيار وضيعوا الوطن وضيعونا معه والحقيقة كل الحقيقة أننا نحن من يجعل الوطن سعيداً أو بائساً وحزيناً نحن من يجعل الوطن شامخا أو مطأطئ الرأس.
” اليمن السعيد، يمن الإيمان، يمن الحكمة … لم تأت هذه التسميات من فراغ .. كان اليمن سعيداً يوم كان أهله يزرعون أرضه سعادةً ويصدرونها للعالم .. يوم أن كانت المعابد لا تتعطر إلا ببخوره ولبانه.. كان وطني سعيداً عندما كان سيف بن ذي يزن يشهر سيفه للذود عنه وليس للخوض فيه ..! كان يمن الحكمة يوم كانت بلقيس على عرشه تقول لشعبها: أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون .. أطرقت ندى للسماء تفتش فيها عن إجابات لكل تلك التساؤلات التي يكاد ينفجر بها رأسها وتكاد تتسرب من روحها .. على من يقع ذنب رحيلك أنت وأمثالك يا عمار وليس في وطني محتل دخيل ؛ بل هو وطني يقتل وطني وشعبي يقتل شعبي ..! وطني المريض ببعض أهله .. هؤلاء المرضى بأفكاره, بعقلياتهم, بمعتقداتهم وكل تلك السيئات التي حبلوا بها خارج وطني الحبيب في أثناء علاقاتهم غير الشرعية مع طامعين وقتلة, يدفع لهم ما يدفع لعاهرة باعت طهرها بدراهم معدودة لأجلها كانوا بوطنهم من الزاهدين.. ثم ما لبثت أن عادت تلك العاهرة إلى وطني لتطلق فيه مخاضها المسموم بالخزي, المتشرب للخيانة , لتربي على أرض وطني الحبيب جيلاً هجيناً من كل ما هو سيء ومنبوذٌ .. ها هو ذا وطني الحبيب يعمى بأبنائه الذين كان من المفترض أن يكونوا بصيرته .. ! يمرض بأبنائه الذين كان من المفترض أن يكونوا عافيته .. ! كيف لأمةٍ وحدها الإسلام ديناً أن تفرقها الحدود جغرافيةً وقلوباً .. !كم أصبح لنا من حكام في حين ما من حكمة أضحت في أمرهم .. ! كانت قد بلغت قريباً من كليتها عندما وقعت عيناها على معقل آمالها وقد سطت عليه الحرب كذلك .. واصلت تمشي حتى دلفت سور كليتها .. أكوام رماد بدت لها متكورة في الساحة الواسعة هو كل ما تركته أدوات الحرب البشرية التي يبدو أنها مرت من هذا المكان لتأتي على بوادر العلم والنور فيه بعد أن أخذت كل ما يهمها من بيانات لمنتسبي الكلية الذين ارتأت أنهم بثقافتهم ومراكزهم العلمية والاجتماعية قد يشكلوا ولو بعض مقاومة ضدها فنهبت ما يمكن نهبه ثم أحرقت ما تبقى عندما لم تجد فيه أهمية بالنسبة لها .. وماذا قد يرى جاهل بمنطق جهله .. !
رأت هذا المنظر فانهارت أمام عينيها في الهواء خمس سنين من عمرها بكل ما فيها من كدٍ وتعبٍ وآمال وطموحات لتتكوم مع كومة الرماد أمامها .. كومة رمادٍ من أمال وأحلام ندى وآلاف الطلاب أمثالها .. لا أسوأ على وطنٍ من جاهل ينصب نفسه سيدا على غير الجهلاء , وأسوأ منه متعلم ومثقف وأكاديمي محسوب على الوطن خارج دائرة الجهل يدين لذلك الجاهل ويؤمن.. يبقى أن الأوطان كالأمهات تؤوي إليها حتى من يعقها من أبنائها .. تنتظر بشغف عودة الغائب عنها وتهب الجنة التي تحت قدميها لمن يهبها روحه … كما هم شباب اليمن تحول شباب عدن إلى منارات مضيئة تحرس حبات رمال البحر الهائج كأرواحهم .. الثائر كبنادقهم .. منارات تسلط أضواء نقمتها على كل بقعة عتمة جاءت امتداداً لظلام الكهوف وضلالات الأفكار وانحلال الدين وأطماع المجوس … كنا وحدنا أنا والوطن من نحظى بأبجدياتك ولم أكن أخفيك بأنني أغار من اليمن وكأنها ضرتي عندما كان الأمر يتعلق بحبك وقلمك .. قلت لك يوماً إنك تتغزل باليمن أكثر مما تتغزل بي , أشعر بأن هذه اليمن أصبحت ضرتي أكثر مما هي وطني .. أجبتني أنت :-وكيف لا أحبها وهي الأرض التي أنجبتكِ .. , ثم أخذت تبتسم منتصراً عندما صمت أنا مقتنعة برومانسية ردك … الآن هي ذي ضرتي اليمن تحتضنك في ثراها للأبد , ظفرت هي بك لأبقى أنا بدونك لما تبقى من العمر .. آخر ما كتبته كان لأجلها .. كتبت عنها :
” ماذا عن وطن أصيب سادته بداء السلطة فكل واحد منهم يريد أن يصبح سيده , ليس لأنه يرى في نفسه أهل لقيادته إنما لاعتقاده أنه وحده أهل لثرواته وولاءه … يامن شوهتم وطني وأحرقتم وروده .. سلبتموه الحلم وأبدلتموه الوهم .. قمتم على أرضه تقتاتونه واقعاً وتطعمونه آمالاً ما تعدت حتى أفواهكم .. صنع أباؤنا وأجدادنا له فجراً فأبيتم إلا أن تطيلوا قيام ليله متعبدين لأنفسكم وأطماعكم أو مبتهلين لأسيادكم ترتلون لهم فروض الطاعة وتقدمون المواطن البسيط لهم قرابين تذبحونها جهلاً وفقراً”.
حينما وصلت الذات إلى أعلى حد للمرارة أخذت تشتم وتشبه المجرمين بأبشع التشبيهات فما أشبه أعماله بأعمال البغايا وحين رأت الوطن قد وصل حد العماء التام ولم يعد الإنسان يرى في الوطن إلا الحزن يحمل على ظهره حزنا آخر، يضق بالذات حتى يصبح أشبه بلحد ضيق مظلم تتذكر الوطن بوصفه ثورة قيم ثورة رجال لا ثورة بلاطجة ولصوص وقتلة يقتلون من أجل القتل دفعها ذلك لتتذكر الوطن/التاريخ الساطع الذي سيظل يشع إلى أبد الآبدين.
“أميّاً كان غالب بن راجح لبوزة , حمل بعد وفاة والده هم أسرة أنجبته وهم أسرة أنجبها ولأجل هذا كان يتاجر بالقمح على ظهور الجمال من إب وقعطبة والضالع إلى بلدته دبسان في رحلة كان يقطعها هو ورفقته سيراً على الأقدام , ليحب الأرض وتحبه .. توطد بداخله الوطن الذي كان يمضي أياماً يسبر بقدميه العاريتين مسافاته وحدود معانيه فشرع يحرث بداخله للوطن وحريته خفية ويبذره بداخل قلبه حلماً لا بد منه .. واتته الفرصة ليمتطي أحلامه بوطنه بعد قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962 في شمال اليمن في شمال اليمن والتي على إثرها طرد النظام الملكي الإمامي وأنهيت مظاهره , حدث هب له راجح لبوزة ومجموعة من رفاقه من جنوب اليمن ليحرسوا ميلاده بأرواحهم ويهشوا عنه كل ما قد يعكر عليه صفاء فجر بداياته .. ذهب إلى شمال اليمن يحمل في قلبه الثورة حلماً فعاد يحملها بذاراً بعد أن اجتمع لبوزة ورفاقه بالقيادات الجمهورية في صنعاء حديثة العهد بحريتها وتشاوروا مخططين لمد رقعة الثورة لتخرج مشورتهم بقرار عودة هذا البطل ومجموعته من أسود ردفان إلى جبالها ثائرين , فكان أن عادوا بحوزتهم أسلحتهم الشخصية وثلاث قنابل يدوية وقلوباً كانت قد ولدت فيها الثورة آلاف المرات لتبصرها في صنعاء للمرة الأولى حسناء لا بد أن تخطب فتقدموا لها طالبين … ألقت بريطانيا العظمى – الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس – لقرنٍ وما يزيد عن ربع قرن بعتمتها على جنوب اليمن حتى قال لها لبوزة ببندقيته أن كفى , يحتاج شعبي أن يبصر النور يا امبراطورية لم تكف تحجب عن أرضه النور موقدة أبناء وطني وأرضه حطباً لنور شمسها المزعومة … وما شأننا نحن بعظمتك ؛ إن شعبي بذاته عظيم وشروقه القادم لا محالة سيحيل شمسكِ إلى أفول غير ذي شروق آخر”.
وهي في غمرة التذكر للتاريخ الناصع للرجال المجاهدين الأخيار تأتيها أخبار النصر من تلك الجبال التي شهدت الشرارة الأولى للثورة، من مكان الرجال الذين قضوا وكانوا أسوداً فما خلفوا غير أسودٍ آخرين، إن جمرتهم لم تخبوا ولن تخبوا إلى أبد الآبدين، يظل الحق هدفهم السامي ويدفعون في سبيله أرواحهم وإن شوهه بعض الأقزام واللصوص فالحق يزهق الباطل وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
“الأخبار القادمة من الضالع تقول بأن المواطنين والمقاومة هناك قد حرروا المدينة من قبضة الانقلابيين وطردت آخر فلولهم مع ساعات الفجر الأولى من هذا اليوم لتشرق مبكرا شمس نصره قبل شمس فجره .. زغردت الخالة نهال في حين دمعت عينا ندى فرحاً وهوى الخال مجدي للأرض ساجداً شكراً لله” .
ثمة فرح بالنصر وهل هناك فرحة تساوي فرحة النص أبدا أبدا لكن الفرح في وطني لا يدوم كلما أشع فينا فرحٌ طواه ليل الحزن في معطفه.
“بعد خمس ساعات هي مدة سفر شبه مضاعفة بسبب قطاع الحياة والوطن تراءت لمجدي سماء الضالع مزينة بالنصر بينما حدودها محفوفة بالأبطال .. ها هي ذي الضالع .. ليس أجمل من منظر مدينة بعد مطر أو بعد نصر ؛ طاهرة تبدوا لكأنها خارجة للتو من وضوءٍ , متشحة بالوقار وكأنها ذاهبة إلى صلاة .. وكأنها خاشعة لله تشكره أن أغاثها نصراً .. وها هم أبناء الضالع يحتفون”.
لكن ثوب الفرح يطوى سريعا ويلتف الوطن بثوب الحزن لا يمكن للفرح أن يطول طالما بقيت الحرب مشتعلة، الحرب هي سبب كل هذا البلاء ألا لعن الله من فجرها.
“قيل لي بعدها أن فريقها الطبي انتقل خلال اليومين الماضيين من صنعاء إلى مخيم طبي في حدود الضالع حيث أطراف الحرب لا تزال هناك وحيث يخلو المكان من المرافق الطبية لذلك أقيم مخيم طبي هناك وكانت نهال وفريقها أول المبادرين لتشغيله .. هي التي تركت منزلها وأهلها وذهبت لمساعدة الآخرين لاستعادة عافيتهم وحياتهم لكنها عادت جثة هامدة منزوعة الحياة ؛ بل وحتى جثتها تدل على أنها لم تحظى ولو بطريقة موتٍ رحيمة على الأقل كما كانت هي…! لم يكد مجدي يكمل جملته الأخيرة حتى دفع باب الغرفة بقوة لتظهر خلفه ندى , تقدمت داخل الغرفة خطوتين جرتهما بثقل كمن يجر وراءه عمراً كاملاً ”
لم تجد ندى حلا غير الانسحاب من الوطن إلى خارج ومع هذا يرميها الوطن بمآسيه قبيل رحيلها عنه.
“صورة ذلك العجوز الذي بلغ به العمر عتيا وبالكاد يبصر بعينيه الذابلتين .. يفترش شالاً على الأرض وبجواره طفلان لم يتجاوز أكبرهما الخامسة من عمره .. يلقي المارة في شاله نقوداً ورقية وأخرى معدنية والبعض منهم يأتي للصغيرين بالطعام والحلوى .. جلست ندى بجواره القرفصاء تسأله عن حاله .. أخبرها أنه من صعدة وأن ابنه وزوجته اللذان هما والدا هذين الطفلين قد قتلا بصاروخٍ دمر منزلهم القديم على رؤوس ساكنيه … أخرج الصغيران من تحت الأنقاض على قيد الحياة أما والديهما فقد أخرجا جثثاً مهشمة .. كان هو في مزرعته القريبة من المنزل يرعى شجر المان عندما التقت على إثر صوت انفجار الصاروخ ليرى داره القديم الذي سكنه أباه من قبله قد تحول إلى كومة أحجار بينما صدى صوت الانفجار لا يزال يتردد في روحه المتصدعة ألماً … اطرقت ندى مفكرة بحزنٍ تساءل نفسها ” ذنب من هؤلاءِ ؟!! كيف يكفر عن ذنبٍ كهذا ؛ عندما يكون الذنب وطن والضحايا مثل هؤلاء الضعفاء ..؟ نزفها جسده الهزيل ودماء كل الطفولة المقتولة بفعل حرب ..بالأسود لون حقد قتلته وكل من يشبههم .. ثم بالأبيض لون قادم الوطن الأبيض لا ريب” .
لقد قضيت مع الرواية وقتاً ممتعاً ومؤلماً وحتى المؤلم فيها جعلني أستمتع بلذة ألمه، لقد عشت مع الرواية أيام الحرب المؤلمة التي عشتها في الواقع فذكرتني بكل شيء الرصاص الطائرات القذائف الهدم الخوف الذين رحلوا الجرحى المعاقين النازحين غياب الدولة تقاسم المغانم لكنني رأيت وميض أمل في نهاية السرداب.